عندما هوى نجم أمي
بقلم د . احمد عثمان
ادلهم الليل وصار الظلام لوحة معمم بها الخمول , وباتت كل الدروب إليها بلا عنوان, صارت اكبر الشواهد تحتوي حرفا واحدا ينسج من الظلام نهايته, هناك في آخر الليل دمعة تضيء الكون, تصير منارة لاحتواء التائهين في البحر, الغائبين عن عالمهم, الذين سكنهم الآلام المبرحة , المعشقة بحنين يسري في دمائهم, للقاء طهر الكون الأزلي, تلك هي التي سميت أمي , بعد الخمسون كيف لي أن ألقاك يا أمي هنا في لجج الغياب أطياف بكل صباح تعبر من سراديب الظلمة, هاربة من شوقها وتدنو كثيرا من أهداب العين حتى تغيب في السواد فتشتبك الرموش محتوية كل الأطياف ليكون مطلع الربيع بين يديك يا طهر الكون يا أمي.لقد مر العيد ومر عيد وكم مر عيد , وما زلت هناك لم يحملك العيد إلينا فيحزن الفجر كلما ذكرتك, فقررت الرحيل إليك, ولكن المكان لم يحررني لأن العيد مر, المكان عرف بمرور العيد و كيف مر خفيف الظل كما جيوبي الصغيرة الخاوية, ويعرف المكان كيف أقنعت الصغار أن يبقوا في البيت كي يتابعوا ما يقدم التلفزيون من أرشيف الركام المكرر وكل قديم باهت.
المكان يعرف عندما مر العيد ولم أنسى زيارة تلك التي كانت توقظني في صباحيات كل الأعياد وابتسامتها تملأ الأفق وتلون السماء وأوراق الأشجار والدروب, كانت ابتسامتها تكسف الشمس .
العيد يعلم أنني زرت قبر أمي ثاني أيامه كنت أحمل بقايا الروح وسرت عارفا الدروب إلى القبر وتلك الحجارة على الجانبين والأعشاب صارت تعرفني, حتى صارت تنبت بوحشية حيث أصبحت تشبه الموت , لم يكن في المقبرة أحد , من بعيد قبراً أبيضاً لاح وشجرة قريبة لا تزل خضراء رغم وحشة المكان وجفافه , وصلت إلى القبر وهمس عظيم أسمعه خيل إلي أنها تغني نعم إني أسمع صوتها وهي تغني, كان الصوت حقيقة لا وهم , اخترق جسدي صقيع رافقته قشعريرة وشيئا فشيئا بدأ الصوت يتلاشى , أحسست أن عيني على وشك الانفجار وضاق صدري كأحلام الفقراء , وصار فمي جاف كالغبار, جلست على حافة قبر مجاور وتعلقت نظراتي نحو المستطيل الأبيض أمامي وتجمد كل شيء, تحت هذه الحجارة يرقد قلبي, لا أصدق أن أمي بعد سنين طويلة من السفر هي الآن على بعد خطوتين مني, لكنها عبارة عن هيكل عظمي , صرت أتصور الأصابع التي كانت تمسح رأسي كل صباح , ماذا بقي منها الآن…..وأحسست قلبي وروحي تمزقهما آلاف من قطع الزجاج المكسور,وحينها تبادر لي كلام حكيم يوما حين قال:( كل شيء يبدأ كبيرا ثم يصغر حتى الموت) ولكن حزني لازال كبيرا , عشرات السنين والدموع تملأ المآقي وعدت اجر ذيول الخيبة لعدم لقائها, وراحت الشمس تميل إلى الغياب وهي تختفي خلف التلال والأفق يبدي مدا هائلا من دموع ودماء وما أن غارت الدمعات وصارت الرؤية شبه العدم, سمعت ضجيجا في السماء وتوهج الفضاء وهوى نجم جعل الدنيا بيضاء مذهبة بخيوط من شعر الشمس وتأرجح في الأفق حتى عبرتُ كل الدروب وعاد بي العيد ألف عام لأشعر الآن بلمسات كف أمي يمسح شعري, فتلمست كفها الذي كان نسغ الحياة بكاملها ورحت أغني طفولتي من جديد فاعذريني يا أمي لم أفيك حقك لو قلت عنك أنك الحياة كلها.