بقلم د . أحمد عثمان
.jpg)
هذا الفجر قد طلع يا مهد, ويمنى أمي تمتدد إليك فاستيقظ , يد أمي الحياة صارت تلمسك , عيب عليك أن لا تحيا ولو كنت حديد أو خشب , إني أتلمسك بقدمي وكفي …أنت بارد جمعت كل الصقيع … الدفء بكف أمي الذي يأخذ بجانبك لتهتز وتؤرجحني وهذا الغطاء الذي طرزت أنامل كف أمي حروف أسمي عليه , الذي راحت الحروف تتراقص فرحا قبل أن ترفع رأسها أمي عن وسادتها.
آه أيها المهد قم تحرك فالدفء انساب بكل أضلعك , حنين أمي… نبض قلب أمي …دقات قلبها دنت كثيرا مني لما أنت يا مهد لا ترقص , قم قبل أن أهجرك وتخسر فرصتك الأخير أن تحيا بلمسة أمي , سنرحل عنك بعد حين ويهجرك الدفء وتروح أنت مركوناً بأي ركن يحتويك فيه الصقيع فتندم, أنت يا مهد ستصير مجرد ذكرى أو قد لا تكون, فقم واحمل الحياة من كفها لتبقى خالدا معي, أتدري أني سأخلد لأني نلت الشرف بلمس كفها الحياة , تلك التي طرزت الحروف وأنطقتها لتتراقص على الشفاه مكررة أسمي.
أيا مهد أتذكر كم رحّلتك في أركان غرفتها كي تقيك البرد مثلي , إنها أمي التي حملت على كاهلها عبء الحياة بصمت, التي وهبتني وإياك .. أمي يا مهد محترفة بمنح الحياة والنور , كن كما شئت أنت , وأنا سأكون كما تشاء أمي خالد بما وهبتني, أمي لقد أنطقتني الحروف وعهدت إلي بتركيبها لتكون لفظتي الأولى (ماما- بابا ) لفظةً اختزلت الكون بأكمله ,… أنا كبرت يا مهد اعذرني سأغادرك لأسكن فراش أمي , ما عدت أطيق سجنك , أتعلم أن أمي علمتني كيف أمشي وكيف أركض , أتدري صرت غنياً عنك وبقيت أنت ذاك الجماد , لأنك أهملت الريح التي هبت, لكنك كنت الأصم ولم تسمع نبض قلب أمي , هذا أنا يا مهد أركض بكل الأرجاء وأمي ترسم الحدائق والشوارع وكل المنتزهات , أمي عَالمٌ وعالِم ومعلم وعلم , يا مهد هذه أوراقي تحملها بيدها والقلم تأتي لي بالإبداع والمعرفة … تناديني تعال أيها الشقي حان الموعد … أركض تلاحقني وصوت ضحكتها ترقص الأشياء معه, تمسك بي تربطني إلى مقعدي , تثبت الأوراق أمامي , تكتب الحروف حرفاً حرفاً , تهزني بلطف أن أمسك القلم بأصابعي الصغيرة, أخط أول حرف من لغتي أشعر ببهجة وسرور الدنيا كلها , تضحك أمي , النور يطوقنا وكفيها تمسح شعري أمي معلم كبير يا مهد كن كما أنت ولكن سأكون كما تريد أمي .
يوماً آخر .. يوماً آخر ..و..يوما آخر, كل الأيام تمضي وتترتب خلف بعضها , لكن أمي باقية تحمل بقلبها كل العطف والحنان وبعقلها نور الله وتهديني.
في كل يوم وقبل أن يمضي كانت تنسج لي كلمات أشتاقها الآن, كانت تعلمني من الصباح إلى المساء ولازالت تمارس هذا تاركة طيفها يغازلني , أمي لا تمل ولا تكل في المساء تضمني وتبعث لقلبي الطمأنينة , والدفء ينساب بجسدي الرقيق رقم الصقيع القارس.
إني أكبر يا مهد… هذا أبي يحملني يقذف بي من بين يديه إلى الأعلى يريني الأفق بوضوحٍ أكثر.. أمي تصرخ وتصرخ خوفا … وضحكاتي تملأ أرجاء المنزل .. تزداد صرخات أمي .. أبي يطلق يديه للريح يتناولني .. كل شيء يتغير يا مهد, كن كما شئت أنت وأنا سأكون كما تشاء أمي , إنها خطواتي الأولى .. أتعثر .. تمسك يدا أبي بيدي … تفرح أمي .. تضحك أمي .. أمي سعادتها مقروءة في عينيها.
يا مهد لا تلمني غادرتك فأنت لم تبرح مكانك وأنا الذي سينطلق للريح ويد ابي تأخذني وعيني أمي ترعاني .. لا تحزن أنت أبيت أن تستقبل الدفء من أمي .. آه يا مهد لو فعلت لكنت تحلق مثلي , لكنك ما فعلت وما اغتنمت الريح التي هبت.
سنون العمر تمضي وبقيت أنت بركنك لم تتحرك وهذا أنا أركض طليق أعاتب أمي
أسائل أبي أصرخ أُنهر أصدم الأشياء .. صوت أبي يعلو صوت أمي يهمس تخبئني من غضب أبي , كل شيء يتغير يا مهد إلا ركنك لازال بارد.
كبرت وزادت السنين والشيب علا رأسي ولا زلت أحن إليك يا مهد إني اشتاق لمسة أمي الأولى , لقد فزت يا مهد ببقائك في ركنك وهجري زاد بحنيني لمن تناولتك بيمينها, هيهات أين أصبحنا يا مهد فالعمر يمضي إلى آخره وتلك أمي هجرتني , أمي بعدها عني مسافة متر لكن الزمن بعيد فكيف ألقاها يا مهد أمي لم تهجرني , صورتها بقلبي , طيفها يلفني كل يوم , آه يا مهد صار لامي لحد , كن كم شئت أنت وأنا سأكون كما تشاء أمي .