ماعادت الريحُ ريحُنا
ولا الربيعُ ربيعُنا
ولا الأمطارُ أمطارنا
ولا الأرضُ أرضُنا
ما عادت السماءُ سماؤنا
ولا الشمسُ شمسُنا
ولا القمرُ قمرُنا
ولا الحبيبةُ عشقُنا
جاءَ الى بيتِنا رجلٌ
بل رجالْ
جلسوا حولَ مائدةِ العشاء
أشكالٌهم غريبةٌ مثل قراصنةِ البحارْ
أنيابهم صفراءُ طويلة
وعيونُهم من زجاج
وألسنتهم تتدلى كألسنةِ الكلابْ
لبسوا عمامة جدي وافترسواا في مضجعهِ عذرية جدَتي
ودماؤهها تستجيرُ خلفَ البابْ
لم تكن مأدُبَةَ عشاءْ
كانت مجزرةً بلهاءْ
لو أني وئدتُ وأنا صغير ولم أرَ دموعَ أبي وإغماءةَ أمي
لم أرَ كيف حولوا روعة الأنثى الى عورةٍ وخطيئةْ
فصار ثأري اليومَ وهمّي
انتهت المسرحية
وبدأ الحديثُ عن عرضٍ قادمٍ للإفطار والغداء
قالواانه فصلُ الربيع
وفي الربيعِ يحلو صيدُ الأوطانِ وإشعالُ النارِ فيها والشواءْ
انه فصلُ البلاء
أغمضت المدينةٌ جفنيها مع حلولِ المساءْ
أجبرَها الخوفُ والرعبُ على النومِ باكراً
وأنا أمامَ مدفأةٍ عتيقةٍ .. عادَ بريقُها من جديدْ
وفي عقلي صمتٌ يلفحُني
محاولاً نسيانَ جنونَ النهار
وفي قلبي مشاعرُ دافئةْ
أصلي .. وأصلي .. ليعودَ الدفءُ والحبُ إلى المدينةْ
التي تسيرُ إلى طرقاتٍ مظلمةْ
أصلي كي يعيشَ الإنسانُ في انسجامٍ وسلامْ
والجنة التي تؤرقني ذكراها
أهبها إلى وطني
( ياوطني الرائعَ ياوطني )
مشيتُ اليوم في شوارعِ المدينةْ
لأستعيدَ ذكرياتِنا القديمةْ
هنا مقهىً شربنا فيه قهوتَنا
ورسمتُ على وجهكِ قُبلَتَنا اليتيمةْ
بتلك الزاوية بصّارةٌ قرأت لنا الفنجانْ
وبشرتنا بطريقٍ آخره أفراح وبناتٌ وصبيانْ
مررت بمقعدنا الخشبي حيث جلسنا وحَلُمنا
أن تبدأ فرحتنا في المحيط وتنتهي في الخليجْ
والمدعوون من كل الأديانْ
سامحيني حبيبتي
كلُّ تلك الذكرياتِ في قلبي وعقلي حزينةْ
أنا لم أجد أماكنَ ذكرياتنا الجميلةْ
أنا .. أنا .. لم أجد المدينةْ
عندما يكبرُ الحزنُ
وتتحجرُ في مآقينا الدموعْ
عندما يُصبح الألمُ هو زادُنا اليوميْ
عندما يصبغ اللونُ الأحمرُ شوارعَ المدينةْ
ويغطي السوادُ سماءَ الوطنْ
عندما يختلطُ علينا الضحكُ بالبكاءْ
والعويلُ بالغناءْ
وتلامسُ الأرضُ كبدَ السماءْ
عندما تتساوى البندقيةُ مع ريشةِ الفنانْ
و قلمُ الشاعرِ وأوتارُالعودِ والكمانْ
عندما يشيبُ الصغارُ .. ويبكي الكبارْ
وتصبح قلوبُ النساءِ شعلةً من نارْ
عندما تُهدرُ الدماءُ على ارضِ الوطنْ
ويصبحُ الإنسانُ غريباً بين اهلهِ وناسهِ
وتشتدُ من حولهِ المحنْ
عندها تُصبحُ الحياةُ مستحيلةْ
ويصبحُ الموتُ حلمآ صعبَ المنالْ
أحملُ همومي وأرحلْ
بتُّ في وطني كماءٍ يغلي في مرجلْ
ولامخرجْ
كلُّ الأبواب ِكُتب عليها مقفلْ
و غولٌ يصرخ
النارُ من أمامِكم .. و الموتُ من حولِكم
و شعبٌ منهكْ
يحملُ بيمينهِ رايةً كُتب عليها إفعلْ
و بيسارهِ يحملُ مشعلْ
و يسألونَنا ماذا نفعلْ
سؤالٌ مغفلْ
ساقونا إلى الهاويةِ .. و يسألوننا ماذا نفعلْ
أطفئوا النارَ الموقدة تحتنا
وأبعدوا شبحَ الموتِ عنّا
نحن شعبٌ يستطيعُ أن يلملمَ أشلاءَهُ
و يعودَ ليحملَ .. مطرقةً و منجلْ
كانت واقفةً في زاوية الغرفةْ
أصابها الخوفُ والحيرةُ والبرديةْ
تصارعُ مَحبس َخطوبَتِها بحركاتٍ عصبيةْ
وتساؤلاتٍ تدورُ في مخيلتِها
حول أحلامٍ ومواعيدَ أصبحتْ منسيةْ
بينما أحزمُ حقائبي :
الأولى : فيها أوراقي الثبوتيةْ
والثانية : ملابسي وأشيائي الشخصيةْ
والثالثة : أحاولُ ملأها بذكرياتٍ وأحلامٍ ورديةْ
والرابعة : نظرتُ إليها ملياً
أيمكن أن تتسعَ لوطنٍ إسمُهُ سوريةْ
نظرتُ إلى حبيبتي .. ونظرتُ إلى الحقيبةْ
عندها .. ألغيتُ السفريةْ
تسألُني حبيبتي :
ماهذا اللونُ الأحمرُ الذي يُغطي شوارعَ المدينةْ
أهو شقائقُ النعمانْ ؟
وهذه الأصواتُ أرعدٌ هي أم بركانْ ؟
والأرواحُ مزدحمةٌ على أبوابِ السماءْ
أقتلى همُ ؟ أم شهداءْ ؟
ضاعَ التفسيرْ .. لم نعد نجدُ التفسيرْ
أشهداءٌ هم أم في جهنمَ وبئسَ المصيرْ
غضبي كالحممِ تفجرْ
من بطشِ السجّانِ تحررْ
والدمعُ في عيني تحجَّرْ
وصبري على الأرضِ تكسرْ
وصرختي تأتلقُ المنبرْ
ملاكٌ على كَتفي الأيسرْ
يمسحُ الغبارَ عن الصفحةْ
بيضاءَ كانت كالدمعةْ
يكتبُ ويملأُ السطورْ
اليومَ نخرجُ من الجحورْ
نصرخُ نكفرُ نلعنُ
نشتمُ نُهزي نَقتلُ نُقتلُ
نُعربدُ نُسقطُ نهتفُ
نقضمُ نغفوا نصحوا نمحوا
ولن نٌهزم
لن نُهزم
لن تهزمونا
والذي نفسُ محمدٍ بيده
إناهنا باقونا
لن تهزمونا
حتى لو أشرقت الشمسُ من المغربِ
وغربتْ من المشرقِ
لن تهزمونا
حتى لو دمرتُم كلَّ مصانِعنا وبيوتِنا وذكرياتِنا
فإنا صابرونا
لن تهزمونا
حتى لو رحلَ الناسُ جميعاً الى كلِ أصقاعِ الدنيا فإنهم بلا شكٍ عائدونا
لن تهزمونا .. لن ترهبونا
اقرؤوا قرآننا .. اقرؤوا تاريخنا .. إقرؤوا إنجيلنا
لتعرفوا انكم تشترونَ الحياةَ الدنيا
وإنّا لها لبائِعونا
لن تهزمونا
د . جهاد صباهي