يحكى أن
بقلم محمد عبد الكريم يوسف
مراجعة سوسن علي عبود
يوم الطين من الأيام الجميلة في تاريخ الحب الإنساني والأمنيات وفيه يعود الزمن بنا إلى أيام ملوك الطوائف في العصر الإسلامي الغربي في الأندلس. فما حكايته؟
يرتبط يوم الطين بعلمين رائعين من أعلام الحكم العربي في الأندلس هما المعتمد بن عباد واعتماد الرميكية وهما على درجة عالية من الثقافة والمعرفة . فمن هما وما حكايتهما؟
المعتمد بن عباد
كان المعتمد بن عباد حين آل إليه حكم إشبيلية في الثلاثين من عمره شابا فتيا وفارسا و شجاعا و شاعرا مجيدا وأميرا جوادا ذا خِلال باهرة يحب الأدب ومسامرة أهله فاجتمع في بلاطه نجوم ساطعة من أرباب ونوابغ القصيد من أمثال أبي بكر بن عمار وابن زيدون وابن اللبانة وابن حمديس الصقلي وكانت زوجته اعتماد الرميكية شاعرة كذلك تجمع إلى جمالها الفاتن البراعة في الشعر والأدب وكانت إشبيلية حاضرة دولته آية في الروعة والبهاء تزدان بقصور بني عباد وقواده وكبار رجال دولته.
المعتمد بن عباد هو محمد بن عباد بن محمد بن إسماعيل بن قريش بن عباد بن عمر بن أسلم بن عمرو بن عطاف بن نعيم اللخمي أبو القاسم المُلقّب بالمعتمد على الله. ينتمي المعتمد بن عباد إلى أسرة بني عباد ، وهم سلالة عربية تعود أصولها إلى مدينة العريش في شبه جزيرة سيناء بإقليم الشام وهم يُنسبون إلى النعمان بن المنذر حاكم الحيرة قبل النبوة. قدم جد بني عباد إلى الأندلس مع طالعة نهار في بداية القرن الثاني الهجري . وفي مطلع القرن الحادي عشر الميلادي استقلَّ أبو القاسم محمد بن عباد اللخمي بإشبيلية فبرع في الفقه والقضاء وحكم إشبيلية لفترة ثم خلفه فيها ابنه أبو عمرو المعتضد عباد وأخيراً حفيده المعتمد.
ولد أبو القاسم محمَّد المعتمد على الله في عام 431 في مدينة باجة غرب الأندلس، والتي تقع حالياً في البرتغال . أراد والده المعتضد أن يدرّبه على الحكم منذ سنٍّ مبكرة فولاَّه منذ كان عمره 12 عاماً حاكماً لمدينة أونبة ثم عيَّنه قائداً لجيشٍ أرسل لحصار مدينة شلب والاستيلاء عليها وفي أثناء قيادة هذا الجيش تعرَّف المعتمد على الشاعر أبو بكر بن عمار الذي أصبح منذ ذلك الحين من الرجال المقرّبين إليه وكان له دورٌ كبيرٌ في إدارة دولته.
كان المعتمد بن عباد يمثل الثقافة والشعر في ثلاثة وجوه هامة لا يمكن فصلها عن بعضها وهي :
· كان يقول شعرا يثير الاعجاب وتتناقله الألسن والرواة .
· كان يرعى شعراء الأندلس وشعراء الغرب الاسلامي.
· كانت حياته الخاصة حالة شعرية مستدامة ومأساة شعرية كاملة المعالم والفصول.
وقصة " يوم الطين " تتعلق بحياة المعتمد بن عباد إذ أنه كان في يوم من الأيام يتنزَّه مع ابن عمار في مرج الفضة وهو أحد متنزهات إشبيلية المطلة على نهر الوادي الكبير فتأثر المعتمد بجمال المشهد وقال :
نسج الريح على الماء زرد
وانتظر من صديقه ابن عمار أن يكمل البيت لكنه عجز أن يجد كلاما جميلا يرضي المعتمد وكان بجوارهما في هذه الأثناء امرأة جميلة تغسل الملابس في النهر، فقالت:
يا له درعا منيعا لو جمد
وقد تعجَّب المعتمد من موهبتها بالشعر وفتن بجمالها فكلمها وسأل عنها فقيل له إنها جارية لرميك بن حجاج التاجر المعروف واسمها اعتماد فذهب إلى صاحبها واشتراها منه وتزوجها وعُرِفَت بعد ذلك بلقب اعتماد الرميكية ، وكانت أقرب زوجات المعتمد إليه وسيدة بلاطه ومالكة قلبه تسرف في دلالها ونزواتها فلا يمنع عنها المعتمد من شيء ويجعل لها كل عسير يسرا . وفي يوم من الأيام طلبت أن يريها الثلج فزرع لها أشجار اللوز على جبل قرطبة حتى إذا نوّر زهره حالت الأشجار موجا رائعا من الثلج الأبيض ليس له مثيلا على وجه البسيطة .
والطريف أن هذا البيت من الشعر صار فيما بعد نواة للعديد من قصائد عصره تدور بنفس الموضوع والوزن والقافية . فمن هي اعتماد الرميكية ؟
اعتماد الرميكية :
هي شاعرة أندلسية. كانت جارية لرميك بن حجاج فنسبت إليه. ثم تزوجت المعتمد بن عباد أمير إشبيلية ورافقته حتى نفيه على يد المرابطين إلى أغمات ووفاته هناك. عُرِفَت بمهارتها في الشعر والحديث، وبراعتها باستعمال النكت والفكاهة فيهما وكانت مشهورة بالجمال. وكرمى لعينيها غيّر المعتمد اسمه من محمد بن عباد بن محمد بن إسماعيل الى المعتمد بن عباد . ومن شدة غرامه بها كتب لها ذات مرة الأبيات التالية :
أغائبة الشخص عن ناظري …
وحاضرة في صميم الفؤاد
عليك السلام بقدر الشجون …
ودمع الشؤون وقدر السهاد
تملكت مني صعب المرام …
وصادفت مني سهل القياد
مرادي أعياك في كل حين …
فيا ليت أني أعطى مرادي
أقيمي على العهد فيما بيننا …
ولا تستحيلي لطول البعاد
دسست اسمك الحلو في طيه …
وألفت فيك حروف " اعتماد "
نلاحظ أن الحرف الأول من أبيات القصيدة تشكل اسم اعتماد.
يوم الطين :
رأت الرميكية ذات يوم بعض البنائين يغربلون التراب ويغوصون في الطين بأقدامهم ويصوغون منه قوالب اللبن التي تبنى فيها البيوت فأتت المعتمد بن عباد وطلبت منه أن تخوض في الطين وتفعل كما يفعلون . شعر المعتمد بالحيرة من غرابة طلبها ولكنه أبى إلا أن يلبي طلبها رغم أن الطين ليس من مقام قدميها . فأمر وكان أن أحضر التراب إلى ساحة القصر وسحقت أشياء من الطين والكافور والعطر ونثر ماء الورد على الخليط وعجنت بالأيدي حتى صارت طينا وخاضت الرميكية وجواريها في يوم الطين الذي سمي فيما بعد عرس الطين والطيب .
وتنقل كتب الأدب أنه ليس الدلال والإسراف في المطالب خصلتين ملازمتين لاعتماد الشاعرة والأديبة فكثيرا ما أتت المعتمد وهي تمشي على استحياء يسمو بسمو كلمات الاعتذار المستحضرة لندى الرجل فقد غاضب المعتمد الشاعرة في بعض الأيام فأقسمت أنها لم تر منه خيرا قط ! فقال لها : ولا يوم الطين؟ فاستحت واعتذرت منه ، ولعل المعتمد أشار في أبياته الرائية إلى هذه القصيدة حين قال:
يطأن في الطين والأقدام حافيــة كأنها لم تطأ مسكا وكافورا
المأساة الكبرى :
ولم يزَل المعتمد بن عباد في صفاء ودِعَّة إلى سنة 1085م، وفيها استولى ملك الروم ألفونس السادس على طُلَيْطِلَة وكانت ملوك الطوائف وكبيرهم المعتمد بن عباد، يؤدون لألفونسو ضريبة سنوية فلمَّا ردَّ ملك طُلَيطِلة ضريبة المعتمد وأرسل إليه يهدِّده ويدعوه إلى النُّزول له عما في يده من الحصون. فكتب المعتمد إلى أمير المرابطين يوسف بن تاشفين يستنجده ، وإلى ملوك الأندلس يستثير عزائمهم.
ولم يكن الاستنجاد بالمرابطين هيِّنًا على المعتمد بن عباد. فقد كان الرجل يعلم حقَّ العلم أنه بهذه الخطوة يغامر بعرشه ومدينته. لكنه حزم أمره وواجه معارضة حاشيته بصرامة قائلا إنَّ: " رعى الجمال خير من رعى الخنازير." يقصِد بذلك أنه يفضِّل أن يغدو أسيرًا لدى يوسف بن تاشفين يرعى جماله على أن يغدو أسيرًا لدى ألفونسو يرعى خنازيره.
ونشبت سنة 1086م المعركة المعروفة بوقعة الزلاقة فانهزم ألفونسو بعد أن أُبيد أكثر عساكره. وشُهِد للمعتمد فيها بالشجاعة والإقدام. ثم إن ابن تاشفين عبَر للأندلس مرة ثانية لنجدة مدن الشرق الأندلسي، ثم إن ملوك الطوائف عادوا إلى سابق عهدهم ووالـوا الدويلات الأندلسية المعادية من جديد والذي اتخذه العلماء والفقهاء حجةً ودليلًا قويًا لإصدار فتوى تبيح لأمير المسلمين يوسف بن تاشفين القضاء عليهم نهائيًّا. فكان العبور الثالث للمرابطين سنة 1089م حيث شرع ابن تاشفين في الإطاحة بهم واحدا تلو الآخر. فقد ثارت فتنة في قرطبة سنة 1090م قُتل فيها المأمون ابن المعتمد وفتنة ثانية في إشبيلية ظهر من ورائها جيش يقوده سير بن أبي بكر المرابطي من قواد جيش ابن تاشفين.
وحوصر المعتمد في إشبيلية واستولى الفزع على أهل المدينة وتفرَّقت جموع المعتمد وقبض المرابطون على ولديه الراضي بالله والمعتد بالله وكانا في رُنْدَة ومارْتلة ، فقتلوهما غيلة وغدرا فأضعف ذلك المعتمد وأدركته الخيل فدخل القصر مستسلما للأسر سنة 1091م، وحُمل مقيَّدًا مع أهله على سفينة. وأُدخل على ابن تاشفين في مراكش فأمر بإرساله ومن معه إلى أغمات.
إن هذه المرحلة الأخيرة من حياة المعتمد، وهي مرحلة مأساة تنفطر لها القلوب تنتمي إلى الأدب أكثر من انتمائها إلى التاريخ بما تحفل به من الآثار الشعرية الرائعة التي نظمها المعتمد عن محنته وآلامه في المنفى . وقد شغلت هذه المرحلة على قِصَرِها من أوراق التاريخ والأدب فراغًا كبيرًا لم تشغل مثله حياة المعتمد الملوكية كلها. حيث عاش كل هذه المرحلة برفقة حبيبته اعتماد .
ويترجم سمو اعتماد وشموخها وفاؤها للمعتمد وتحملها الشدائد التي مر بما لم يمر بها فمن نعيم الأندلس سيق ملك إشبيلية إلى ضيق ذات اليد وذل الحاجة بمنفى أغمات ولم يكن له من مؤنس سوى أولاده وأمهم التي ظلت تؤنس وحدته وتلهم قريحته بسؤالها حينا ومواساتها أحيانا أخرى.