المهندس: ميشيل كلاغاصي
14 / 6 / 2019
لم يعد بالإمكان النظر إلى الولايات المتحدة الأمريكية, على أنها السيد المهيمن والمسيطر على خارطة النفوذ العالمي, وهي التي هُزمت في عديد الصراعت والمواجهات السياسية والعسكرية التي خاضتها بالأصالة أو الوكالة, والتي تحاول استبدلاها بالحروب التجارية, وبالعقوبات الإقتصادية, وبالإنسحاب من الإتفاقات الدولية, وتحولت مناوراتها إلى سياسة اللعب على حافة الهاوية, وأصبح من الممكن ملاحظة إرتباكها وترددها وتخبط سياساتها الخارجية, وكشف نقاط ضعفها, وغياب استراتيجيتها وإفلاسها.
ولم يعد بالإمكان إخفاء جروحها وندوبها, مع إقتصادٍ نازف وبعجزٍ تجاري يُقارب ال 900 مليار دولار, وبتحالفاتٍ منهكة هزيلة, وبات من المهم ملاحظة أن لجوئها إلى تهديد للأمن والسلم الدوليين, يأتي من باب التراجع وليس من باب التفوق, ويعتمد على رفض غالبية دول العالم العودة إلى الحروب والمواجهات الكبرى.
ولا يمكن لعاقل أن أن يفهم تهديدها وهجومها على الدولة الصينية وعشرات الدول من بوابة القوة, وما يقوم به ترامب يبدو أقرب إلى سياسة “لن أسقط وحدي”, بدليل نوعية العقوبات وقواعد الإشتباك التجاري الذي أوقع نفسه وبلاه فيه, وفرضه أسسا ًجديدةً للصراع والمواجهة, في وقتٍ قد تكون بلاده أحد أهم المتضررين والخاسرين.
على سبيل المثال, يبدو حصارها وعقوباتها للدولة الإيرانية بما يتعلق بتصدير النفط الإيراني, بات يفضح حلفائها في الخليج ويكشف عجزهم عن تعويض النقص الحاصل في السوق الدولية على المدى المتوسط والبعيد, وهذا بدوره سيؤدي إلى إرتفاع أسعاره الدولية, الأمر الذي سيتسبب بخسائر طائلة وغير متوقعة للولايات المتحدة الأمريكية أيضا ً, ولا تقل عن أضرار أعدائها والمعنيين بعقوباتها.
كذلك عقوباته ورفع الرسوم على ما يقارب ال 900 من السلع الأمريكية التي تصدرها إلى الصين, والتي اكتفت في المرحلة الأولى بالرد وبالإسلوب ذاته, وبرفع رسوم الصادرات الصينية لما يقارب ال 625 سلعة فقط … ومع استمراره بالتصعيد, واستهدافه للشركات العملاقة كشركة هواوي, لم يتوقع الرئيس ترامب أنه بإمكان الصين أن تلحق الأذى الكبير وتصيب قلب الصناعات العسكرية الأمريكية, وبما يمكنه أن يتسبب لها من تراجعٍ كبير لقدراتها العسكرية, وسيدفع بتراجع مكانتها ونفوذها في العالم, وبإضعاف قدراتها على إنتاج بعض الأسلحة النوعية المتقدمة.
فغالبية الأسلحة الأمريكية المتقدمة تعتمد بشكلٍ شبه كلي على مواد “الأرض النادرة” التي لا تنتجها دولةٌ في العالم سوى الصين … وقد يكون تعنت الرئيس الأمريكي وإدارته سببا ًرئيسيا ً لتحويل الولايات المتحدة إلى أحد ضحايا الحرب التجارية التي يضرمونها … إذ تعتمد الولايات المتحدة على الصين في الحصول على مواد الأتربة النادرة, والتي تستخدم 17 عنصرا ً منها على نطاقٍ واسع في صناعة البطاريات والهواتف الذكية والسيارات الكهربائية وعديد الخدمات والسلع الأساسية.
ويبقى من اللافت الإشارة إلى دخول تلك المواد والعناصر الأرضية النادرة, في الصناعات العسكرية الهامة, خصوصا ً تلك الأسلحة النوعية والمتقدمة والحرجة, والتي تشمل لوائح كبيرة من تلك الصناعات, فمن صواريخ التوماهوك إلى طائرات ال F-35 المقاتلة, والمدمرات والطرادات المجهزة بنظام “إيجيس”, وكل ما يتعلق بالصناعات الحربية الدقيقة, التي تتطلب توفر العناصر الحرجة, كالمغناطيس الدائم والسبائك النوعية المتخصصة التي تنتجها الصين حصريا ً.
ومن المهم الإشارة, إلى دخول تلك المواد في صناعات القنابل الذكية والذخائر الموجهة, والتي تدخل في عداد الإمداد الأمريكي طويل المدى, والتي لا يتم إنتاجها إلاّ بعد إبرام صفقات بيعها, أو لإستخدامها السريع, بسبب إرتفاع تكالبف إنتاجها, وعدم قابليتها للتخزين الطويل, والتي قد تحتاجها الولايات المتحدة على عجل, في حال نشوب بعض الصراعات من خارج الأجندة الأمريكية, أو تلك التي تتطلب حربا ً أو هجوما ً فوريا ً مستعجلا ً… ويكفي معرفة أن كل قطعة بحرية من غواصات الهجوم السريع الأمريكية, تحتاج لما يقارب الخمسة أطنان من المواد الأرضية النادرة.
ومع ذلك يستمر الرئيس دونالد ترامب بالتصعيد والتهديد بالحروب العسكرية, ويستخدم المنابر الإعلامية لإطلاق أكاذيبه حيال رضوخ الدول لحروبه التجارية وعقوباته الإقتصادية, ولا ينفك يعلن عن إنتصاراته الوهمية, كإدعائه رضوخ المكسيك للإتفاق الجديد قبل أيام , في وقتٍ تبين فيه أن المكسيك كانت قد وافقت على طلبات وربما على توسلات ترامب قبل عدة اشهر, كذلك تصريحاته وتوقعاته بإقتراب التفاوض مع الدولة الإيرانية إلى أن ثبت العكس, بالإضافة لإعلانه عن إقتراب رضوخ الصين والتفاوض معها, بعدما أطلق عشرات الأكاذيب بأن:” الصين ستخسر الكثير, وأكثر مما ستربحه من سيطرتها على المواد الحيوية”.
لم تكتف الصين بالإشارات الإعلامية وبالتهديد بقطع صادراتها من الأتربة النادرة, كنوع من الرد على الضغوط الأمريكية على شركة الإتصالات العملاقة “هواوي”, بل ذهبت تلميحاتها الإعلامية الحكومية الرسمية , إلى أبعد من ذلك, وبإحتمالية إدراج تلك المواد على لوائح صادراتها التكنولوجية, بما يشكل ضربة ً قاضية للصناعات العسكرية الأمريكية, وقد يسمح ذلك للاّخرين من أصدقاء وأعداء بالحصول عليها.
من الواضح أن إعتداد الرئيس ترامب بذكائه وفريقه الحاكم ومستشاريه, جعله غير قادر على فهم وهضم أن الصين غيّرت وبشكل فعال طريقة إدارتها للحرب, وربما ستغير من نتائجها… وبات على فريق الأمن القومي الأمريكي الإقتناع بقدرة المنافسين الإستراتيجيين, وفرزهم وتمييزهم عن الضعفاء… وبات عليهم الحذر من دفع الصين إلى استخدام مواد الأتربة كسلاح استراتيجي, وإلى البحث عن الهيمنة العسكرية… فلن يكون بمقدور الولايات المتحدة الإستعاضة عن السوق الصينية للمواد والأتربة النادرة, عبر السوق اليابانية التي حاولت البحث عن مصادر أخرى وفشلت, فالصين تحتكر تلك التجارة بفضل إمتلاكها الخامات وبالأسعار التي لا يمكن منافستها.
وعلى الرغم من إدراك وزارة الدفاع الأمريكية أهمية التلميحات والتهديات الصينية, وعلى الرغم من إعترافها وتحذيراتها من إحتكار الصين لهذه المواد, وتأكيدها عبر تقريرٍ في نهاية العام 2018, بأن الولايات المتحدة لا زالت تعتمد في صناعة المغناطيس الدائم على توفر النيوديميوم, الذي تستخدمه في توجيه الصواريخ الدفاعية, إلا ّ أن ترامب يتابع إفلاسه وسياسة التصعيد والتهيد والعقوبات واللعب على حافة الهاوية تحت عنوان “لن أسقط وحدي”.
المهندس: ميشيل كلاغاصي
14 / 6 / 2019