د.نعمه العبادي. العراق
اثارت تصرفات بعض الفرق والجهات المشاركة في مونديال قطر لكرة القدم 2022 حول دعم المثلية والتبجح بحمل رموز وعلامات لهم، مشاعر الكثير، وزادت من حماسة النقاش حول الموضوع، وتطور الامر في سياقات مختلفة، فقد غرد السيد مقتدى الصدر في اكثر من منشور رفضا لهذه الظاهرة، ثم دعى لنشاط يحاول تعبئة رأي عام مناهض لهذا التوجه، فيما صار الموضوع محلا للانقسام في وسائل التواصل ونقاشات الفضاء العام.
ومع كل ما صدر، وما دار ويدور حول هذا الموضوع الخطير، فإن النقاش والتشخيص وطبيعة المقاربات لا تدرك حجم وعمق وخطورة وخلفيات هذا التحول الاجتماعي والثقافي الغريب الذي جعل من الدفاع عن المثلية حالة حضارية وحقوقية، فيما تعد مناهضتها نحو من العنف والتمييز والسلوك الشائن، والحقيقة ان تنميط المجتمع لقبول المثلية ليس هو المثل الوحيد في عالمنا، وإنما هناك آلاف الامثلة التي جرى ويجري التنميط لها بشكل هادئ، ويتزايد انغماس المجتمع في اوحالها يوما بعد يوم.
من المهم، ان نؤكد على اننا إذ نقارب هذا السلوك، لا ننظر إليه بمنظار سيكلوجي لجهة كونه سلوك فرد لديه اختلالات ومشاكل في نمطه الجنسي، ويؤشر الى معطيات معينة، وانما ننظر إليه كظاهرة اجتماعية، اخذت سياقها في التبلور والتركز والحضور، ليس عبر المثليين فحسب، بل من خلال طيف واسع من المدافعين والمحامين عن هذا المجتمع على اساس كونه هوية فرعية تكشف عن توجه خاص يجسد رغبات مجموعات من البشر، وبالتالي هو (بحسبهم) هوية فرعية مقبولة واجبة الاحترام.
دينيا، كانت مواقف معظم الاديان واضحة في تجريم وادانة المثلية، والدعوة الى معاقبتها ورفضها رفضا قاطعا، إلا ان هذا الموقف لم يبقى على حالته، فإن المتتبع لرؤية الكنيسة الكاثوليكية يجد اضطرابا وتضاربا في الاقوال والمواقف، ففيما كانت الترجمات القديمة للكتاب المقدس، وتوجهات الآباء تقف بوضوح بالضد من الشذوذ، تأرجحت الاراء اللاحقة بين الصمت والمداهنة ثم القبول، وانتهاء بالمباركة، ويمكن رصد هذا الاضطراب بوضوح في كلمات البابا الحالي وكنائس اخرى، والامر ذاته يشمل اليهودية والكنائس الاخرى، فالاضطراب والتضارب سيد الموقف، لكن الامر انتهى الى القبول والتصالح.
لا بد لمن يريد ان يقتفي اثر المجتمع الميمي، ان يبحث في الاطر الفكرية والثقافية التي سمحت لهذه الظاهرة بالتبلور تدريجيا لتتحول الى مطلب اجتماعي مشروع، وشعار سياسي تقدمي، وضرورة اقتصادية.
ان البحث العميق في هذه القضية، يوقفنا على الحداثة بوصفها بوابة الشر العظيم الذي قدمت منها هذه الظاهرة وغيرها، ومن المؤكد ان هناك عقول ساذجة سوف تشمر عن ساعديها لدفاع ساذج عن الحداثة، تخيلا منهم ان الحداثة هي التطور في مظاهر الحياة والرقي في العلوم والتكنلوجيا والنضوج في الممارسة السياسية، ومما لا شك فيه اني لا اعني ذلك كله، بل اتحدث عن المقولات الفكرية الكبرى التي قامت وبشرت بها الحداثة وما بعدها، بوصفها رؤية فلسفية جديدة للكون والحياة.
بعيدا عن جدل تحديد تاريخ دقيق للحداثة، فإن القرن الرابع عشر والخامس عشر منطلق الحداثة بصورتها الواضحة، وقد قامت هذه الحالة الفكرية والحضارية على مرتكزات اساسية هي (الهوية السائلة، الصيرورة، نزع القداسة)، حيث صارت المحددات الثانوية الفرعية موجب لانتاج آلاف الهويات الفرعية التي فتت كل الهويات المركزية الكبرى، واصبحت النسبية هي الحالة الوحيدة الثابتة، فبحسب الحداثة فإن المطلق الوحيد في هذا الكون هو النسبي، ثم تحت شرعية النقد وسلطة العلم اباحت نزع القداسة من كل شيء في الوجود.
تزامنا مع هذا الخفض الكبير لمنسوب تحصينات الفكر والمجتمع، نمت بشكل تدريجي الدعوة الى المثلية والمجتمع الميمي، ليس بوصفها حالة سيكلوجية لها خصوصيتها، بل بوصفها هوية اجتماعية تعبر عن مجتمع له حقوقه ومطالبه، بل وحقه في ان يكون عضوا واضحا ومؤثرا في البناء الاجتماعي.
وبعد ان صارت مقولة حاكمية التخصص على كل مجالات الحياة، صار الفيصل في هذه القضية قول المتخصص، ونعني هنا طبقة ممن يتحدث عن التبرير البايلوجي لهذا الموضوع، والذي مثل ركيزة ساندة، وهكذا، بدأت تتهاوى تحت مطارق هذا التوجه المدعوم والمتخادم مع اتجاهات سياسية وثقافية وتجارية، قادت مقولات الحداثة، وشرعنتها، واستثمرت فيها، بل كانت من نتاج توجيهاتها.
من الصعب التفكيك ما بين التضليل الثقافي والمعرفي والمصالح السياسية المتحالفة مع اللوبيات التجارية ومافيات الانحراف، وهو ما يجعل اي حديث او خطاب بالضد من المجتمع الميمي والمثلية قائم على ادبيات الاطلاق الاخلاقي وما قبل الحداثة، مردودا وممنوعا بحسب هينمة وحاكمية الحداثة وما بعدها التي نسفت كل المطلقات وحظرت تداولها بوصفها متآمرة على العقل والتفكير.
لقد نفذت المثلية كخيار اجتماعي الى بيت السياسة والقانون والعلم والتجارة بل والدين، وهكذا اسست لها شرعية واقعية مكتسبية من هويتها المختلقة بفضل مقولات الحداثة التي نمت وتربت بين احضانها آلاف الهويات الشاذة، وقد ولد هذا الضغط المدعوم من اكثر من جهة حالة من الانسياق والهرولة الانهزامية امام صراخ وهمي يتغذى من مقولة باطلة تدعي حقا مكتسبا.
ان كل المواقف الرافضة، وتوجهات الممانعة والدعوة الى مواجهة هذه الآفة طيبة ومحمودة وايجابية، ويؤجر اهلها على قدر نيتهم، لكن المواجهة الحقيقية الفاعلة التي يمكن ان توقف هذا الزحف البغيض وغيره من المظاهر، لا بد لها ان تذهب عميقا في تفكيك البيئة الثقافية والاجتماعية والمعرفية التي تحولت في ظلها المثلية من حالة اخلاقية مرفوضة الى هوية اجتماعية تفترض حقوقا وواجبات، وهو ما يتطلب جهدا معرفيا وثقافيا فضلا عن الجوانب السياسية والقانونية والاجتماعية، والذي يفترض مشروعا متكاملا.