المسافة بين العالم والحياة …سلالم من حنين لم يكتمل نموه بين أهازيجه وأنينه.
أجل ..ان التجارب التي تربى عليها الانسان، تجعله ان يكون معلم ذاته، وتلميذ ذاته، ومدرسته محطات كثيرة المقاعد والسلالم والكتب والدفاتر ..يكتب ويمزق ويلخص، ويدون، ويستظهر ..ولايمل.
فمابال الذي فطر على تجارب الفقد ،بدءاً من بحة نداء مازال يستقرئ البوح أيقونة عودة جلها استحضار كينونة فصول تحتاج ديمومة السلال للمواسم البائدة في عرف الارتحال والابادة ..
“لابد ان يتألم من كان واسع الوجدان..عميق الشعور”
نواعير .. مميزة في فضاء بلا فناء.. هزيعها متجدد لذات النغم المثقل بقيمة الأسطورة ..حيث الصباح يبدأ من عذوبة ضحكتها لعبور وانبعاث وأثير.
******
مازلتٌ اجلس على كرسيها الهزاز، أمام حائط مضمخ بحكايات منها غاب، وبعضهامازال يرتب امتعة الرحيل، ليبقى أريجها بقعر كؤوس معطرة بأياتها”وأما بنعمة ربك فحدث”.
نظراتي تطوف الأرجاء،تبحث بين صورة وأخرى، عن قلب يتواتر بتتابع عقارب ساعة جدارية، تخفق وتحدق في احداث افراح واتراح داخل اطارات لولبية.
منذ برهة كنتٌ هنا، وحضن. الناعورة دافئ لايقربه صقيع،تعيد مجدها، تلملم نثار فوضى طفولية نسيت ان تكبر، كرسائل محنطة، كعطر الحبق، كعصفور منسي في وكنة، ناثراً صحوته من عبث وطاويط وذئاب ..
نعم ..نحن نوافذ ذاتنا، نراهم من خلالها، نتتبع خطواهم، نرشقهم بصمتنا ليقولوا مالم نجرؤ على قوله برغبة اخجلها استعجالها وضرورة تلكؤها ..بمزاجية مزاح فقد جديته ..
نوافذ متحركة، بعضنا توسدها حد الالتصاق، كحروف صامتة وصارخة لحظة استظهار لاينتهي ..بعضنا استراح على تخومها بكل القلق الممكن والمريح فوق أوراق تجيد غناء الجرح بكبرياء،مهيب، على متن اجفان هائمة في زوابع امنيات لم تكن على قيد المشتهى ولابمتناول اليد.
أيتها الناعورة الأسطورة ..دعينا نعترف ببعصنا، نعترف بما اقترفنا من حنين له سطوة ناعمة رغم حكم مقصلة الفقد العنيد..دعينا نرجم شيطان التردد في اقتناء ماهو لنا ..علنا نلجم ثالث المستحيلات. علنا نعرش كالدوالي على كل مفازات الغربة التي تواقحت بنشب أظافرها في أحداقنا بلا رحمة ..
“في كثير من الأمور نحن لاينقصنا ايماننا بالقضاء والقدر..ولكن ينقصنا قوة احتمالنا كبشر ..لاستيعاب وقوع القضاء والقدر “
نحن عبئاً على بعضنا، عبء الشكوك المسورة على الشكوى المستدامة لضفاف أسطورة تتعاشق العيون وتصبح كالهدب والجفن ..كالنقاط فوق الحروف، كهامش وفهرس وسطور وعنوان وحكمة ربيع يأبى الأفول….
كم هي قريبة المعاني بين النوافذ والنواعير، كضجيج العطر في الورد، كغمز الرؤى في المنام ..كالتفاف الشجر بحفيفه، كتلميحات تطفو ..تهفو. ترنو وتتوغل وتستقر في العباب ..كل نواعيرنا نوافذ ..سلام داخلي صلاة وخشوع في محراب الأزقة تتلمس بروقها كجنح فراش على خيط ضوء ..
نحن الصمت المسجى فوق عناقيد بخور ..
نحن كلمات تراق فوق الورق ..
نحن الأمكنة والعتبات والشرفات والأرصفة والظلال الرطبة المصبوغة على جدران أهرمتها اشواق الراحلين لتشهق فينا الذاكرة ..نحن الحلم في اليقظة، والهوى في الصبوة، والحرقة في الجوى،وماتشظى واكتمل من مطر وجفاف،والنبوءة في الخافق، والبرعم في كمه، والسر في التوأم،
نحن شرعية كل الخطايا،وحرمان وفيض عطايا، وبواكير الدالية وخواتيم البداية لنضج العناقيد في جيد المرايا..نحن الأحاجي والقصص المرعبة ومشاوير في العمر المفترض..
نحن أقدار لانعرف ان نُقَدّر حجم زيت قناديلنا،واتساع الأنواء في سفر نواعيرنا حين تبتلع نغمها في مدها وجزرها.
نحن الحفيف والرفيف والصرير حين يضج البوح في قامة قلم ليعانق السطور في الورق ..
في تيه الوقت نبسمل بالغبطة والدهشة ونبحث عن تلك الأنامل التي نمت واعادت الود في زمن الانهزام، في حكايا الجدات ..كشموس تشرق برهة ..كسفن تمخر العباب وتكبح ثورة الأمواج في تناقض الفصول ..
نحن النوافذ المتحركة بلا ملل ..
فالنواعير مقام شأنها رسائل ووصايا وشرفات محنية، تقول للأزقة ..
نحن هنا..
رغم مقايضات الأحزان بالأحزان
رغم تنافر الأمنيات ..
رغم الخشونة من انين النواعير
بوح ..يُسمع
يراع …يشفع
بأن ….يٌقرأ..
ويقرأ..
“من وحي نافذتي المتحركة “
باكورة انتاج الأديبة القصصي /2000
عن دار أرواد للطباعة ..