أميمة إبراهيم …الحنين وحمص بين زمنين
في العتبة الأولى للنص الموسوم بـــ:”صغيرة كنت”، للشاعرة أميمة إبراهيم، نستشعر بأن هناك صغيرة تنسج حكاية مما اختزنته في ذاكرتها عن مدينة . حمص وتفاصيلها، – تلك المدينة ذات التاريخ العريق والذي يعود إلى عام 2300 قبل الميلاد، و كانت تسمى في عهد الرومان باسم “اميسا”، والتي تقع وسط البلاد، وصلة الوصل بين مدن الداخل والبحر- لتضع على ظهر القصيدة مايتيسر حمله.
*شغف وحنين
تبدأ الصغيرة بإفراغ ماتحمله ذاكرتها الندية من قصص ومواقف على الورق كشاهد على فترة زمنية محددة، وتبدأ رحلة الوصف بدءأً من ضباب حمص، قرميدها، حجارتها السود، تطير الصغيرة في الحلم مع سنونواتها المبشرة بعودة الربيع.
وترصد كيف يأخذها الحنين: ” إلى شتاءاتِها الممعناتِ في البردِ / الممتلئاتِ بالدّفءِ”، حيث تجتمع الأسرة ليبدأ تدفق سيل الحكايا مع ضحكات الفرح التي تبعث الدفء وتطرد البرد إلى غير رجعة:
( صغيرةً كنتُ
ألتحفُ ضبابَ حمصَ
وأغرّدُ لقرميدِها
وحجارتِها السّودِ.
و مع مواكبِ سنونواتِها
أطيرُ
يأخذُني الحنينُ إلى شتاءاتِها الممعناتِ في البردِ
الممتلئاتِ بالدّفءِ
وحكاياتِ مداخنِها في ليالي كانون.)
*انتظار وحلم
تأخذنا الصغيرة إلى ضفاف قلعة حمص، لترينا كيف تنتظر المعيل – الأب – مبعث الدف والأمان أثناء عودته من العمل، وما تحمله من أحلام تجود بها يداه الكريمتان تمنّي النفس بها، وسرد الصفات الظاهرة لوالدتها، ووفاء الجارات، وشغف النساء بتقليد غمزة المطربة” سميرة توفيق”في ستينيات القرن المنصرم، علّهن يكسبن ود الحبيب.
(عندَ ضفافِ قلعتِها
كانت أحلامي تُورقُ بانتظارِ أبي يعودُ من عملهِ.
وبين الجاراتِ كانتْ أمّي
صبيةً ممشوقةَ القدِّ
تنهلُ من طيبتهن ماءَ الوفاءِ.
يومها كانت “سميرة توفيق”
تجمعُ بحلاوةِ صوتِها رهطَ النّساءِ الشّغوفاتِ للجمالِ
يقلّدنَ غمزةَ عينها
كي يحاورنَ الحبيبَ بعدَ تعبٍ وكدّ.)
*أسطرة وحقيقة:
كانت تنتظر الجدة لأنها مستودع الحكايا، كانت “سوشيل ميديا” ذاك الزمان، حيث القصص التي تشكل شخصية الطفل،
تسرد قصصاً من الأساطير، وقصصاً موجعة لحادثة سوق الشباب إلى سفر برلك، حيث قسم كبير لم يرجع وخَلَفَ في صدور أهلهم ندوباً لم يدملها الزمان، ثم تحاول أن تبث في حكاياتها الفضيلة والقيم النبيلة، حيث ذكرت الشاعرة قائلة:” وتغضبُ لمنظرِ راقصةٍ / تتلوّى وتهزّ خصرَها النّحيلَ.”:
(وكانت جدّتي بمنديلِها الأسودِ تحملُ قصصَ الضّيعةِ
وأسرارِها
والعتابا.
تحكي عن الجنّية الساكنةِ في النهرِ
والعسكرِ التّركي يأخذُ الشّبابَ إلى السفرِبرلك.
وتغضبُ لمنظرِ راقصةٍ
تتلوّى وتهزّ خصرَها النّحيلَ
فتضحكُ البناتُ لطرافتِها
وظرافتِها.)
*تماهٍ وتأثر
وهنا تؤكد الشاعرة قدرة الحكاية على سحب المتلقي إلى تفاصيل السرد الصغيرة لدرجة التماهي بها لدرجة أن يكون أحد شخوصها، وربما الذهاب في الخيال إلى أبعد مما جاء في القصة، لا أحد يقيّد التحليق في الحلم، بدلالة قولها:” كنتُ أضمُّ شخوصَ الحكايةِ وأرتحلُ مع سندباد”، لتكمل استكشاف مجاهيل دروب الحكاية غير آبهة بالمخاطر كما كان يفعل سندباد، وهذا يؤكد على دور الحكاية في رسم شخصية الطفل.
(وإذ كانَ رفاقُ الحيّ يلعبونَ
كنتُ أضمُّ شخوصَ الحكايةِ وأرتحلُ مع سندباد
وبقايا من سندويشةِ الزّيتِ والزّعترِ
مازالتْ في يدي.)
*تعايش وتآخي
وتسرد الشاعرة حالة من التعايش والتآخي بين كل مكونات المكان من خلال تدوين حالات حياتية يومية حقيقية، من خلال الاتّكاء على الموروث في تصوير حالة العراضة التي تدلّ دائماً على حالة فرح، كولادة طفل بعد سبعِ بناتٍ، وتعميد وشفاء من الحصبة، وكذلك التأكيد على حالة السلام الداخلي والصفاء الذاتي في حالة النذر ولباس الثوب الأزرق والخيط الأبيض في زيارة كلٍ من خديجة وماريا والذهاب لكنيسة السيدة، ومسجد خالدبن الوليد، صورة رائعة رسمها النص عن التآخي الحقيقي، وكم نحتاج في هذا الوقت إليه، وهذا مايجب على الأدب التركيز عليه:
(ضاعتْ من ذاكرتي التفاصيلُ!
تلكَ العراضةُ التي سرُتُ ورفاقي وراءها مُصفّقين
هل كانتْ لمحمود عندما بَشّرتِ الدّايةُ بمولدِه بعدَ سبعِ بناتٍ؟
أم لعبدِ المسيحِ وقتَ معموديتِهِ وشفائهِ من الحصبةِ؟!
والثوبُ الأزرقُ ترتديه خديجةُ مثلما ماريا
وتدخلانِ معاً كنيسةَ السيّدةِ
تنذرانِ أن تزورا معاً مسجدَ خالد بن الوليد.
هل أشعلتا الشمعَ يومَها أم سجدتا ؟!)
*بين زمنين
بعد كل هذا التصوير الماتع في النص، تصل الصبية لمرحلة أن صارت جدّةً، لتقارن بين زمينين في ذات المكان ونفس الشخوص، وبالرغم من كل ماحصل لم تتخلَّ عن التحاف غمام حمص، ولاتحليقها من السنونو، لكن مايوجعها هو تغيّر كانون، وكيف صيّره الوقت غولاً يبتلع الحلم والواقع في آن واحد، وأشد ما آلمها هو مايفعله الوقت في رميه للروح بكل قسوة للبرد والوجع والظلمة، وتبدّل القيم في الناس بأنانية مقرفة.
(جدّةً صرْتُ
ومازلتُ ألتحفُ غمامَ حمصَ وأطيرُ مع مواكبِ السّنونو
حالمةً بالدّفءِ
وكانونُ صارَ غولاً يستبيحُ الرّوحَ
ويتركَها للظّلامِ.)
*خلف عامر