نعمه العبادي
تعد علاقة الانسان بالمكان أحد أهم الروافد التي تشكل شخصيته وترسم معالم حياته، فصلته بالمكان الاكثر أثرا، والأوضح وجودا، إذ يلازم المكان الانسان في كل مراحل حياته من اول لحظة صيرورته وحتى ما بعد موته، وهي صلة لا تضعف او تتراجع مكانتها مهما كانت قدرة الانسان مؤهلة بالعوامل المعنوية.
درجت المعارف المتعلقة بالجغرافيا على تقسيم المكان المتعلق بالسكنى والعيش الى ريف ومدينة، وفي هذا المقال نعرض لفوارق هذه العلاقة بين هذين الحيزين، وما يتبعهما من فوارق الاثر، بل وعموم مسار الحياة الانسانية.
يصنع الانسان المكان في الريف بنفسه، فهو يتعاطى مع فضاء فارغ مؤهل بإمكانات العيش على قدر معين، فيشغله ساكنيه بما يزرعون ويبنون بأيديهم، فهم صناع مسكنهم وموطنهم، فيما يختلف الامر في المدينة، فالمكان مصنوع في غالب الاحيان بغير ايادي ساكنيه، بل ان معظم الساكنين يجهلون كل شيء عن هذا البناء من شخوصه وتاريخه، ولطالما كانت علاقة البنائين بالمدينة تنقطع بعد ان يصبح الفراغ وجودا مؤهلا للسكنى.
ان هذه الصلة الوثيقة والحميمية ما بين الانسان والمكان في الريف، تجعل ذكرياته اعمق واغزر بخصوص المكان وتفاصيله، فهو مرتبط بكل جزء من الاجزاء التي اوجدها، وفي ذاكرته خزين من سردية وجودها، لذلك، يجد صعوبة بالغة في مغادرة المكان، ويبقى منشدا إليه مهما كان جمال الاماكن التي يتحول لها، لكن الامر، يختلف كثيرا في المدينة، فالعلاقة تحكمها ظروف العيش والخدمات وقرب العمل ومحددات اخرى، وان الصلة تبقى تفاضلية وليست نفسية، ومن هنا يسهل استبدال المكان عند المدني مع توفر ظروف افضل واحسن للسكنى.
يتيح الريف للانسان، ان يتلمس الالوان واشكال الاشياء بشكل اعمق وافضل من المدينة، حيث يتعاطى مع طبيعة الاشياء، وغالبا ما تكون الطبيعة منفلتة عن سوط التنميط والضبط الذي يحكم المدينة، فهي تتشكل من الوجود المتنوع بكامل اختلافاته، والذي يوفر صورة مترعة بالالوان والاشكال المختلفة، فيما المدن، تميل الى التجانس والوحدة، وتشابه الالوان، ومعظم ما فيها من الالوان والاشكال مصنوع مبتدع لاغراض وحاجات، وظاهرها قد تغير كثيرا عن اصله الاول.
مشيدات الريف صغيرة الحجم، تنمط أفق الريفي على حجمها، فتمنعه من تخيل ما هو اكبر منها بكثير، فيما يتيح الافق المفتوح للريفي سعة في النظر، فهو مأنوس بالمسافات المفتوحة، ولا يمكنه تخيل الاكتظاظ والزحام، ويقف المدني في الجهة المقابلة، فحجوم المشيدات كبير، يغذي تصور الانسان بما يمكن تخيله من الاحجام الكبيرة، لكن الافق محدود، والمسافات والفجوات صغيرة ومداها قصير، فلا يمتد بصر المدني كثيرا، وهو مقيد بزحام ما حوله، ففي الريف أفق فيه بناء، وفي المدينة بناء يتخلل بعض الافق.
التغيرات في الريف بطيئة، وايقاعها رتيب جدا، ففرصة التجديد وإضافة العناصر الجديدة محدودة، ويخلق هذا الواقع نفسا وعقلا لا يتعاطى بسهولة مع التغيير، ويتردد ويقلق منه كثيرا، فيما تركض المدينة بين يدي سكانها، فهي في تغيير مستمر ودائم، حتى ان سكانها، لا يلتفتون للكثير من التغيير الذي يحدث بشكل مستمر جراء اعتيادهم عليه، وانشغالهم في تفاصيل الحياة، وهكذا، يسهل على المدني تقبل التغيير والتعاطي معه.
في الريف، يكتسب المكان اسمه من ساكنيه عادة، فالانسان اسبق من معالم المكان، فيما تضيف المدن لساكينها اسمائهم، وهكذا تتبدل الاسماء بتبدل المدن، وهذا ايضا حافزا يزيد من تعلق الانسان بالمكان في الريف، لهذا يقاتل الناس عن المكان في الريف حتى الموت، إذ ينظرون الى المكان بوصفه مقومهم الوجودي، فيما يختلف الامر في المدينة كثيرا، فالمكان لا يتربط بعلقة مسؤولية مع ساكنيه، بل علقة تخادم قابلة للبحث عن خيارات افضل، فشرف المدن موزع بين عدد لا متناهي من ساكنيها، بينما شرف القرى والارياف يساوي شرف ساكنيها.
هناك امكانية لتوسيع دائرة هذه الفوارق الى مجلد كبير، وكلها تكون نظرة عميقة، لفهم الانسان والمكان بشكل يتجاوز المعهود من آليات الفهم والتعامل.
يبقى الانسان ملتصقا بالمكان (ريفيا كان او مدنيا)، لذا فإن اي حديث عن حياة الانسان دون اقرانه بالمكان يبقى منقوصا، وبالخصوص ما يندرج تحت عنوان التنمية.