بقلم محمد عبد الكريم يوسف
يبدو أن فيروس كورونا يذكرنا بدروس أهلنا عندما كنا صغارا . ويبدو أن البقاء في البيت عقوبة وليس مكافأة خاصة عندما يطول أكثر من اللازم . ويبدو أن الفيروس يجبرنا على تفهم حالة أمنا وزوجنا وأختنا في حالة عدم خروجهم للعمل خارج المنزل .
كيف يؤثر البقاء في المنزل على الصحة العقلية للإنسان ؟ وما الإجراءات التي يمكن أن يقوم بها المرء للمساعدة في التغلب على الحالات النفسية التي يمر بها الإنسان من جراء البقاء مدة طويلة في المنزل؟
لقد تسبب الفيروس التاجي في توقيف معظم النشاطات في العالم كما أجبر معظم الناس للبقاء في منازلهم والابتعاد عن الأخرين والسبب في ذلك هو رغبة الإنسان في المحافظة على صحته الفردية وصحة الأخرين .
يبدو أيضا أن البقاء في المنزل والحجر الصحي له حكايات طويلة تكررت أكثر من مرة عبر التاريخ وأنقذ أرواح العديد من البشر ، وكأن البقاء في المنزل فعل سهل لا يكلف شيئا . لقد تغير مفهوم البقاء في المنزل في عصر التكنولوجيا وصار الأمر مختلف عما كان عليه في السابق وتحول من مجرد استراحة واستجمام إلى عقوبة يصعب على المرء التكيف معها بل ويواجه الكثير من الصعوبات والتحديات التي يجب مواجهتها والتغلب عليها.
وعلى الرغم من أن الإنسان يتوق ليوم العطلة إلا أن البقاء في المنزل يتحول بسرعة إلى تحد نفسي كبير عندما يصبح البقاء في المنزل واجبا . يؤثر البقاء الإجباري في المنزل على حالتنا النفسية ويجعلنا عرضة للضغوط الكبيرة والخوف والقلق ، ويأتي معظم الضغط النفسي من الفيروس التاجي نفسه لأنه يتحول إلى هاجس فيتحول البقاء في المنزل من وقت للتسلية والراحة إلى تحد قوي لسلامتنا العقلية . ونحن جميعنا نحفظ عن ظهر قلب أن ” كل ممنوع مرغوب”.
لقد أصبحت العديد من تصرفاتنا الروتينية وعاداتنا اليومية غير مجدية لأنها تتطلب منا الخروج خارج البيت والاختلاط بالناس . وفي حالة فيروس كورونا صار لزاما علينا أن نحافظ على احتياجاتنا المالية والمادية والنفسية والعاطفية مع الحفاظ على بعدنا عن الناس وترك مسافة أمان بيننا وبينهم .
وإذا أردنا فعلا أن نتصدى لهذا الوباء فإننا بحاجة ماسة إلى أن نكون أكثر وعيا بكيفية انتشاره وتأثيره على صحتنا العقلية . سنسلط الضوء على بعض التحديات التي تواجهنا عند بقائنا في المنزل والإجراءات التي يمكن للمرء القيام بها حيال كل تحد من هذه التحديات :
تحدي الحركة
يمتلك الإنسان السيارات الفارهة الفاخرة والهواتف الذكية المتقدمة تقنيا لكنه في النهاية مثله مثل جميع المخلوقات يحتاج الحركة والتنقل لأنها حاجة فطرية فإذا بقي الإنسان عالقا في المنزل يتحول إلى تحد كبير.
إن العلاقة بين الحركة الجسدية والصحة النفسية راسخة رسوخ الجبال ويعرف الجميع أنه يجب ممارسة المزيد من الرياضة في حال البقاء في البيت . الآن وقد علق معظم البشر في منازلهم بسبب فيروس كورونا، صار يتحتم عليهم ممارسة المزيد من الرياضة والحركة وربما يكون هذا الافتراض أصدق من أي وقت مضى في الظروف الحالية .
الترياق الواضح والأكيد لقلة الحركة هو تحريك الجسم . صحيح أنه لم يعد بالإمكان الذهاب للنوادي الرياضية ولكن يمكن للمرء استبدال النادي بالمشي داخل المنزل وممارسة التمارين السويدية والجلوس القرفصاء وحتى التأمل وهذه التمارين تحتاج إلى مساحة صغيرة لممارستها وهي ليست بحاجة لمعدات رياضية .
وعندما يمارس المرء تمارين القوة والمرونة والحركة طوال اليوم أو معظم أوقات النهار سيكون العقل ممتنا جدا لهذه الحالة .
تحدي البقاء على تواصل مع الطبيعة :
عندما يمشي الإنسان في الغابة ، قد يلاحظ شيئًا غريبًا : يبدأ الإنسان في الشعور بمزيد من النشاط و يتحرك الجسم بسهولة أكبر ويضيء المزاج العام . لأن الطبيعة لها تأثير مباشر وقابل للقياس على رفاهية الإنسان الفكرية .
يؤثر علينا الهواء النقي وضوء الشمس المباشر ورائحة النباتات جسديًا ونفسيًا. ومع ذلك ، فإننا عندما نبقى في الداخل لفترة طويلة من الزمن ، نفتقد هذه المزايا والخصال الطبيعية ونعاني من غيابها .
وفي حال كان الإنسان يعيش في منطقة مغلقة يمكن أن يُسمح له بالخروج بين الفينة والفينة وفي هذه الحالة عليه أن يتجه إلى أقرب غابة أو بحيرة أو شاطئ بحري لتجديد حالته النفسية ورفع معنوياته قدر الإمكان .
وعند الخروج من المنزل على المرء أن يمتع ناظريه برؤية الطبيعة بمنظار جديد والنظر إلى الغيم والتطلع نحو السماء والتمتع بالنسيم العليل وسماع صوت الطبيعة والعصافير وحفيف الأوراق . إن تذوق جمال الطبيعة شيء رائع وتجربة غنية .
تحدي المعنى والغاية :
نحن جميعنا مخلوقات طبيعية لنا حاجات طبيعية في العمل والحياة . ولكن هناك أعمال كثيرة تعطي الحياة المعنى والهدف . أحيانا يمرض من يتوقف عن العمل ويشفى من يعمل من أمراض كثيرة . العمل شفاء للكثير من الأسقام ، والمكوث في البيت مصدر وجع كبير . علينا أن نحافظ على هويتنا سليمة معافاة عن طريق قضاء بعض الوقت مع الأبناء والأحباب والأشخاص المقربين من القلب رغم أن هذه الأنشطة لم تعد مجدية في زمن التباعد الاجتماعي الناجم عن الحجر الصحي والأوبئة.
وهذا يحتم علينا جميعا اعادة تدقيق نشاطاتنا واختيار ما هو مفيد لنا والبحث عن طرق جديدة وحقيقية للعيش بحيث نحقق الرغبات العميقة في القلب . قد لا نكون قادرين على الذهاب للريف لقضاء عطلة أو ممارسة الرياضة في النادي أو الانضمام إلى فرقة موسيقية أو الذهاب للمركز الثقافي للبلدة أو زيارة الجدة ، ولكن يمكن استبدال بعض النشاطات مؤقتا بنشاطات أخرى قد تكون أكثر فائدة وقد يكون تقديم العون للمحتاجين إحدى هذه الوسائل.
في زمن الأوبئة ، على الإنسان أن يعيد تعريف الكثير من النشاطات التي يقوم بها بحيث يحافظ على معنى حياته ووجوده .
تحدي التعرض للمساءلة :
عندما يُطلب من الإنسان البقاء في المنزل يتعرض للضغوط النفسية العديدة بسبب تغير مفاجئ في الأنشطة والممارسات وحيث أن كل ممنوع مرغوب يصبح الخروج من المنزل هاجس الكثيرين وهذا يعرضهم للمساءلة القانونية . قد يكون الخروج الاعتيادي من المنزل والذهاب للعمل من الروتين الممل للإنسان ولكن البقاء في المنزل أكثر مللا للكثيرين . عند البقاء في المنزل يتغير الهيكل التنظيمي للعمل إذ لم يعد من الضروري الالتزام بموعد الاستيقاظ الباكر ويمكن أن يكون بوسع المرء أن يؤجل أي عمل نظرا لغياب الجداول الزمنية وهذا يدفع الإنسان للتهاون في تنفيذ الكثير من الالتزامات فيبدأ أولا بمواجهة تحد المساءلة الذاتية وعذاب الضمير نتيجة التهاون في تنفيذ الأعمال والمهام . وعندما يقرر الإنسان الخروج إلى الشارع أثناء فترة الحظر يعرض نفسه أيضا للمساءلة من الجهات المكلفة بتنفيذ الحجر الصحي .
يمكن للإنسان أن يعيد تحديد أولوياته وبرامجه بدءا من الصباح وحتى النوم تماما كما يلتزم بوقت العمل . يمكن أن يستيقظ الإنسان باكرا ويبدأ بقراءة كتاب جميل أو قصة ممتعة مع فنجان قهوة الصباح ثم يمارس التأمل والاصغاء والصمت ثم الإفطار ثم قليلا من التمارين الرياضية العادية أو السويدية ثم المساعدة في أعمال المنزل المختلفة والاستحمام ومشاهدة مسلسل تلفزيوني وحل الكلمات المتقاطعة أو تلوين الزخارف العربية والإسلامية وزخارف الحضارات الأخرى والاستمتاع بمقطوعة موسيقية أو أغنية جميلة . علينا أن نستغل وقت الراحة أثناء فترة الحجر الصحي بأشياء مفيدة تساعدنا على تنمية مهاراتنا المختلفة .
تحدي التواصل :
الإنسان بطبيعته يحب التواصل مع الأخرين في الدائرتين الضيقة والواسعة . والتواصل عبر التاريخ كان ولا يزال وسيبقى إحدى أعمق الرغبات في قلب الإنسان ويدخل في تصميم فكر الإنسان وعواطفه المختلفة . وما السجون إلا عقوبة تقطع التواصل بين السجين ومجتمعه وإذا سألنا 100 شخص عما يهمهم أكثر في الحياة نجد أن الجواب يكون : التواصل . إن غياب التواصل هو السبب في الكثير من المشكلات على المستوى الفردي والمجتمعي والدولي والسياسي والإنساني . عندما يغيب التواصل بين الأزواج تبدأ المشكلات بالتوسع والانتشار .
وعندما نقرر عزل أنفسنا اجتماعياً ، فإننا ننكر لأنفسنا قطعة غالية من إنسانيتنا. وقد أظهرت الدراسات والأبحاث العلمية أن عدم التواصل يؤدي إلى تعطيل سلامتنا النفسية والعاطفية بشدة . وعندما يعزل المرء نفسه لمدة أسابيع متواصلة ، يلاحظ بالفعل التأثيرات على مزاجه ورفاهيته.
في المنزل يحقق الإنسان الأمان بالتباعد الجسدي وينسى الأمان الاجتماعي . على الإنسان أن يرتقي في البقاء في البيت إلى مستوى التحدي وعليه أن يكون قريبا اجتماعيا من أسرته أكثر من أي وقت مضى .
يمكن للإنسان أن يطرح أسئلة ذات مغزى وأن يستمع أكثر وأن يتعلم الإصغاء وأن يتوقف عن رغبته في أن يكون محط الاهتمام وأن يهتم أكثر. يمكن استخدام مواقع التواصل الاجتماعي والحديث مع الأصدقاء وتبادل الآراء والصور والهموم والاهتمامات والآمال والأحلام .
الشعور بالتواصل مع الأخرين يتجاوز مجرد الاتصال الجسدي ، بل يتعداه لمشاركة الإنسان الأخرين اهتماماتهم ورغباتهم وطموحاتهم وآلامهم وأتراحهم
خلاصة
تحفز فينا هذه التحديات طاقات فريدة قد تظهر في بداية الأمر على أنها مشكلات مستعصية الحل تسبب لنا النفور والإحباط ولكن إذا قاربناها من منظور آخر نجد أنها تحديات تخلق لنا فرصة تطوير أنفسنا وتحويل هذه الطاقات الجديدة المستجدة نحو الإنماء والتطوير، الأمر الذي يحولنا إلى بشر كاملين أكثر وعيا وأكثر إدراكا واستمتاعا بالحرية .
المراجع
10 Coronavirus 3D Design Challenges For Students
www.makersempire.com › lesson-ideas-students-coronavirus-learn-ho…
Viral Challenges Are What’s Keeping Us Occupied
www.nytimes.com › 2020/03/26 › style › viral-challenges-coronavirus
Coronavirus: an unprecedented challenge to democracy …
www.euronews.com › News › World