قبل أيام نوّهت في حوار مع مجلة ،، أزهار الحرف ،، المصرية ، بالشكر إلى أساتذتي ، وما تذكّرت أحدهم يوما ، إلا واعتبرت نفسي محظوظا بمن تتلمذت على أيديهم ، سواء في بلدتي صدد ، أم في دار المعلمين بحمص ، أم في قسمي الصحافة ، واللغة العربية ، وكلية التربية بجامعة دمشق .
وفي الغداة ، آلمني نبأ وفاة د. منى الياس ، أستاذتي في مادة النحو ، وما أدراك ! ما النحو وعلومه وتشابكاته ، لم يكن سهلا علينا هضم كتاب المادة ، لولا أساتذة من طينة المبشرين ، عاصم بيطار ،محمد علي سلطاني ، ومنى الياس ، التي ظلّلتنا بابتسامتها ، مشرقة ودودة ، تقرّبك منها ، ومن المادة ، وهي تكسر حاجز الرهبة .
صبورة بلا ملل ، متحمسة بلا كلل ، وهي تنثر من مخزون علمها الغزير ، ما يشدّك لمادة من أصعب المواد ، كان ذلك أواخر سبعينات القرن المنصرم ، وكنّا في سنة أولى أدب عربي
، نتهيّب كلّ مواد القسم ، فما بالك بالنحو ! لولا أن الله قيّض لنا صبيّة راقية متحمسة ،تجذبنا لبحر القواعد ، برفق وطمأنينة ، فلا نخاف تموجاته وتعرّجاته وما أكثرها !
بسموّ تواضعها ، وودّها ، بسطت لنا قواعد علم النحو، وقرّبتها لأذهاننا بأمثلة متدرّجة حتى إذا جاء الامتحان ، كنا على خير اطمئنان ، مازادنا محبة واحتراما لها ، ومازاد مكانتها علوا في نفوسنا ، فكيف ننسى ؟ وكيف لانتذكّر ! ولسان الحال قول الشاعر يناجيها :
” أشعلت روحك في الآفاق مصباحاً ورحت تزرع في الأوطان أرواحاً
ورحت توقدين الأبدان فخراً. عزيمة تغمر الأكوان إصباحاً
ورحت تبني منارات العلا شهباً تشعلين الحلم آمالاً وأفراحاً “
وحين راح عبق يراع د، منى ، يفوح على صفحات الثقافة ، وجدتني أتتبّع زاويتها الأسبوعية ، وهي تطلق رؤى من عمق ثقافة ورقي فكر، محمولة على طموحات لأبهى صور الوطن ، كما حين أطلّت عبر أثير الإذاعة أو الشاشة ، ببرامج وأفكار جاذبة ، فيها من أصالة التراث بقدر ما فيها من معاصرة وحداثة لغد أكثر إشراقا ، لأجيال أكثر تمكّنا وقدرات .
لقد عاشت أستاذتنا (في الجامعة والحياة) ، بكلّ جوارحها محنة الوطن ، بل عانت وكابدت من تداعيات العشرية السوداء ، وأحسب أنّ وجعها كان مضاعفا بقدر ما كانت آمالها واسعة طامحة ، فلم يعد قلبها يحتمل ، وأسلمت الروح إلى باريها ، وفي ذاك القلب الرؤوم غصّة وغصّات ، وحرقة وحسرات .
كانت تحيّتها سبّاقة ، حين أصدفها رائحة غادية بين استديو وكنترول، وأما استيضاحات الاطمئنان ، فتتوالى لتثريك كبرا ورقيا ، كنت أغبطها على هكذا همّة ، وعلى هكذا نعمة .
وها أنا أفتقدها بأسى ، أستاذة صددية المحتدّ ، عاشت فخر الانتماء ، كانت رحلتها في الحياة ، غنيّة علما وعطاء ، ودّا وغيّريّة ، وتركت إرثا ثمينا من سيرة عطرة وثمار ثقافية علمية ثرّة لطلبتها كما للمجتمع .
وأمّا وردتاها ، فما أبهاهما رقيا وعلميا ، وها هما تراكمان أريجها بعبق يتضّوع في غير مكان واتجاه ، فلهما صادق التعازي كما لعارفيها ، ولطلبتها جيلا بعد جيل ، و لفقيدنا الرحمة ، من أرحم الراحمين
# ولدت د.منى الياس في فيروزة – حمص عام 1948، وتعلّمت بها، حازت على إجازة الأدب العربي من جامعة دمشق، ودكتوراه من جامعة عين شمس بالقاهرة. شغلت منصب رئيسة قسم اللغة العربية في كلية الآداب في جامعة “دمشق”وقدمت العديد من البرامج التلفزيونية؛ منها: “في رحاب الأدب”، و”في رحاب العربية”، ونشرت العديد من المقالات في الصحف السورية .
قد كان الناس يمدحوك لرحمتك و الآن أنتِ بين يدي الله تغتنمِ
غفر الله لك و أسكنكِ جنتهُ يا من لها كل الأخلاق و القيمِ
*سعدالله