رأيتها مرمية في طريقي ، فخمنت أنها سقطت سهواً من أحدهم ، تناولتها ، تلمست أجزاءها متفقداً ، نعم إنها هي ذاتها ( مطيطة – عود مطيط – نقيفة ) تسميات مختلفة لوسيلتنا الأهم في صيد العصافير أيام الطفولة وأول الشباب .
وحضر حنيني لتلك الأيام والأفعال ، رغم أنني لم أفلح في أي صيد عبر مسيرة طفولتي بعد أن مر ردح طويل منها ، وكان علي أن أتحمل سخرية أترابي واتهامهم لي بعدم الدقة في التصويب ، أو برداءة تصميم ( نقيفتي ) ، وأنا أتألم وأحاول أن أفعل شيئاً دون جدوى .
كانت حصاتي المندفعة تذهب سريعاً إلى حيث يقف ذاك العصفور ، لكنها كانت تخطئه في كل مرة .
وكنت أنظر إلى النماذج الأخرى في أيدي أترابي وأنا في ضيق شديد ، أطلب إحداها للمقارنة ، فأكتشف ببساطة أنها لا تختلف عن نموذجي .
وفي غفلة عن الباقين خلوت بأمهرنا في صنعها ( زاهر ) وطلبت منه أن يصنع لي واحدة كالتي معه ، مقابل ربع ليرة كاملة ، هي كل خرجيتي عن خمسة أيام كاملة . وافق على العرض ، وذهب إلى شجرة سنديان قريبة ، فتش في أرجائها حتى عثر على ضالته ، واقتطع قوساً وأخذ يشذبه بعناية ، وفي اليوم التالي كانت ( النقيفة ) جاهزة في يدي .. جربها أمامي ، ومن محاولته الأولى ارتمى أمامنا صريعاً دوري سمين .
ولم أنل مرادي ، إذ لم تصل أي حصاة مهما راعيت حجمها واستدارتها في الوصول إلى جسد أي عصفور .
ولم ينفع احتجاجي أمام تجاربه التي كان يكررها أمامي ، فيحظى بصيد وفير ، إذ تتحول نقيفتي في يده إلى مهارة حقيقية ، بينما هي ترتجف في يدي ، وتخطئ عيني التصويب الدقيق ، فتتنامى خيبة أملي يوماً بعد يوم . أتمرن في غيابهم ، أشد يدي وأمعن أكثر ، ولا أحظى بشيء .
وكان علي في نهاية كل يوم أن أخفيها في مكان ما قبل دخولي إلى البيت ، كي لا ألام من أبوي ، أو تصادر ليمزقها أحدهما ، وهما يكرران على مسمعي قصة قلع عين جارنا ( أحمد ) في عبث طفولي بها غير مقصود .
وظللت أيام ذاك الصيف كله ، أعيد الكرة ، لأعيد ثقتي بنفسي ، إلى أن فعلتها ، لا تستغربوا .. فعلتها ، ولا أعرف كيف ارتمت أمامي بلا أي حراك .. ولم أثق في البداية من فعلي ، وظننت أن أحداً ما هو الذي أصابها .. ولكن انفرادي في المكان أكد لي أنني صاحب الطلقة ( الحصاة ) القاتلة ، انتشيت واقتربت من العصفورة ، رفعتها بيدي ، كانت حصاتي قد أنهت حياتها على الفور .. صغيرة الحجم هي ، ليس في جسدها شحم أو لحم ، عظام وبعض الريش ورأس صغير وقلب توقف عن النبض ، فماذا أفعل بها ؟ وقدرت أن أمي ستلومني حتى لو قلت لها أنها من صيد أترابي ، وسترميها لقطة الجيران .
قلبت الأمر في ذهني ، تنامى ألمي مما فعلت ، وعاد إلى أذني صوت غنائها في أعلى شجرة البلوط قبل قليل ، قادني غناؤها إليها فأسرعت ورميت وقتلت .. وانتابتني نوبة ندم فظيعة ، دفعتني لبكاء هستيري .. ووجدت نفسي أنكش التراب الغض في المكان ، ثم أتحول إلى نقيفتي أكسر عودها بعصبية غير مشهودة مني ، وأمزق مطاطها ، أوسع الحفرة أكثر وأدفن القتيلة وحطام النقيفة فيها ، وأشتم في سري وعلني ( زاهر ) الذي صنع لي مثل هذه النقيفة التي صارت أداة قتل حقيقية ، لا أداة لهو وعبث ..
توجهت بعد ذلك إلى بعض أترابي ، وأعلنت أمامهم دون أي ذكر لتفاصيل فعلتي ، أنني لن أعود لمثل هذا الفعل من جديد ، وسط ذهولهم ، وهم الذين كانوا يشهدون إصراري على إتمام فعل الصيد بعد رحلات فشلي المتكرر ..
وظل الأمر يطفو على سطح ذاكرتي، بأي تحريض بسيط قوامه مرأى أي عصفور ، أو أي شيء من لوازم صيده ، وكتم غنائه .
محمد عزوز
كتبت عام 2012
( لوحات قصصية برسم الطبع