م. ميشيل كلاغاصي // 16/3/2024
مع سقوط الإتحاد السوفيتي عام 1991، شعر الأوروبيون أن أحلامهم المستحيلة قد تحققت دون صراع عسكري حاسم, وبدون إطلاق رصاصة واحدة, وباتوا يتصرفون على أنهم المنتصرون في الحرب الباردة، وانطلقوا لرسم علاقاتهم مع روسيا على أنها دولة مهزومة.
ولسنوات عديدة، قبلت موسكو قواعد اللعبة التي عرضها الأوروبيين، وسعت لتطويرعلاقاتها الإقتصادية معهم, وفق الإستراتيجية التي وضعها الإتحاد الأوروبي للتعامل معها, والتي ارتكزت على أساس ضمان مصالح الدول الأوروبية, وتحويل روسيا إلى سوقاً لمنتجاتهم, وراقبوا طويلاً مدى التزام روسيا بتعليماتهم, لكنهم اكتشفوا أنهم أضاعوا الوقت بمراقبتها, وباتت تتفوق بعلومها وصناعاتها وإمكاناتها, وبسياساتها التي منحتها نفوذاً مختلفاً عن نفوذهم الذي رسموه بالقوة العسكرية والإحتلال وسرقة ثروات الشعوب, وراقبوا تقدم علاقاتها المميزة مع عشرات الدول في أفريقيا واّسيا والصين وغيرها, واستشعروا خطرها كدولة مسالمة أكثر منها دولةً محاربة.
خشيةٌ أججت مشاعرهم لمنافستها, تطورت لاحقاً نحوعدائها وكراهيتها, ومع غياب القادة الحقيقيين في أوروبا, ألقى الرؤساء بأنفسهم ودولهم وشعوبهم أكثر فأكثر في يد الإمبراطورية الأمريكية, التي بدورها رسمت خطط اصطياد روسيا وتدمير إقتصادها, وإبعادها عن سلم الصعود الدولي, للحفاظ على تفردها بقيادة العالم, وعلى عالمها أحادي القطب.
ووضعت خطط محاصرتها, ونكث العهود معها, والإقتراب من حدودها عبر توسيع الناتو شرقاً بضم أوكرانيا, وعملت واشنطن على تغيير نظام الحكم في أوكرانيا ووصول النخب الراديكالية إلى السلطة, والتي بدورها بدأت استفزازتها وعدوانها على الجمهوريات الشمالية والمواطنين الروس فيها منذ عام 2014, وتم وضع روسيا بين فكي كماشة، الحضوع أو الحرب, في وقتٍ لم تنفع فيه محاولات روسيا السلمية والدبلوماسية لثني الأوكران عن الجنون, في حين كان الغرب يتوقع رضوخها وإنصياعها للحصار والتهديد, وبقدرتهم على سحقها وتدمير إقتصادها, وبأنها لن تغامر بدخول المواجهة العسكرية مع الغرب “القوي المخيف”.
ظل الوضع على حاله حتى 24/2/2022, يوم أطلقت روسيا عمليةً عسكرية خاصة في أوكرانيا دفاعاً عن نفسها وشعبها وحدودها وأمنها القومي, وأعلنت بوضوح أهدافها بتصحيح التاريخ, وخلال أكثر من عامين لحرب الوكالة الأمريكية, وضع الناتو والإتحاد الأوروبي والدول الأوروبية كافة إمكانياتهم العسكرية والإقتصادية والتجارية ودعمهم المالي, وحزم عقوباتهم القاسية والمتنوعة, في خدمة حرب تدمير روسيا والإطاحة بالرئيس بوتين.
عامان للحرب على روسيا عبر البوابة الأوكرانية, مرّ فيها المتحالفون ضد روسيا بثلاث مراحل, أولها التماسك ووحدة الصف في دعم كييف سياسياً وعسكرياً, وبالمال والسلاح, وبحصار روسيا, وسط الاّمال الكبيرة بالإنتصار, وفي الثانية تم اكتشاف أن استنزاف روسيا لم يكن مجدياً, وسط هزائم القوات الأوكرانية بطريقة كارثية, وبأن كييف لن تصمد, وأن أفق المساعدات والدعم بكافة أشكاله لم ينفع وليس له نهاية, أما الثالثة وهي الحالية, فتتمثل بضرورة المناورة تحت عنوان البحث عن حل سياسي واقعي وفق نتائج المعارك الميدانية بالدرجة الأولى, وبما يضمن استدامته.
وسط اختلاف الحسابات والأهداف والهواجس, بدا الأوروبيون وكأن كلاً منهم يغني على ليلاه, تحت هيمنة المشغل والسيد الأمريكي, خصوصاً بعد فشل هجوم الصيف وهجوم الشتاء, ولا زال الأوكرانيون يطلبون المزيد من المال والسلاح والدعم.
إن الإطلاع على التقارير اليومية التي تصدرها وزارة دفاع الروسية كحصيلة للمعارك اليومية في المنطقة العسكرية الشمالية, من كوبيانسك، إلى دونيتسك لوغانسك وخيرسون وزابوروجي, وعشرات المواقع الأخرى, يبدو صادماً للولايات المتحدة وفريقها الغربي, مع تسجيل تدمير ما يقارب 600 طائرة حربية، 280 طائرة مروحية، 16000 طائرة بدون طيار، 500 نظام صواريخ مضادة للطائرات، 16000 دبابة ومركبات قتالية مدرعة …إلخ.
من خلال إعجابه بتمثيل دور البطولة, كان لا بد لزيلينسكي من انتقاد البابا فرانسيس الذي دعاه للتحلي بالشجاعة ورفع الراية البيضاء والموافقة على الجلوس إلى طاولة المفاوضات, في وقتٍ خرج الأمين العام عن نمطيته, وتحدث عن المفاوضات التي من شأنها “الحفاظ على استقلال أوكرانيا كدولة ذات سيادة”.
في الوقت الذي تحدث فيه ماكرون عن إرسال القوات الفرنسية والناتو إلى أوكرانيا, كان وزير الدفاع الإيطالي يستنكر التصريحات الفرنسية والبولندية نيابةً عن الناتو, فيما كان شولتز يعرب عن رفضه المقترح الفرنسي, وسط فضيحة التسريبات التي أثبتت تورط ألمانيا بالهجوم الصاروخي على جسر شبه جزيرة القرم, بالتوازي مع تأييد وزيرة الخارجية الألمانية فكرة نظيرها البريطاني لخداع روسيا وإرسال الصواريخ الألمانية بعيدة المدى إلى القوات الأوكرانية, على إيقاع رفض رئيس حزب “فرنسا المتمردة” مانويل بومبارد, توسيع الناتو وإنضمام أوكرانيا الناتو وإلى الاتحاد الأوروبي, وتأكيد وزير الخارجية المجري بأن أوكرانيا لن تتمكن من هزيمة روسيا, ولا بد من إنهاء الصراع عبر “مفاوضات السلام”, وسط الطفولية السياسية لوزيرالخارجية السويدي ورفضه وجود قواعد دائمة للناتو في بلاده, في حين أكد المخضرم إردوغان بأنه سيعتزل العمل السياسي, وبأنها “النهاية بالنسبة له”.
أما السيد الأمريكي, في الوقت الذي تعترف فيه وكالة الإستخبارات الأمريكية “بتفوق روسيا في أوكرانيا”, وبأن الوضع هناك وصل إلى طريق مسدود – بحسب بلومبرج -, وتأكيد مستشار الأمن القومي جيك سوليفان، بأن الولايات المتحدة لا تنوي إرسال أفراد عسكريين إلى أوكرانيا, وما نقلته صحيفة بوليتيكو عن البنتاغون, بأنه لا تتوفر لديه الأموال اللازمة للإستمرار بدعم أوكرانيا بالسلاح, بإنتظار قرار الكونغرس, رغم وعود بايدن لزيلينسكي بها.
في حين أكد فيه مدير وكالة المخابرات المركزية ويليام بيرنز, إنه بدون استمرارالدعم الأمريكي، ستضطر كييف إلى التفاوض مع موسكو في غضون عام, الأمر الذي سيكون له تداعيات على المصالح الأمريكية بما يتجاوز “أمن أوروبا”, ويطال المصالح الأمريكية في منطقة المحيطين الهندي والهادئ, وشدد على ضرورة إجراء حوار مع روسيا.
بات من الواضح, أن دول المعسكر الغربي بقيادة الولايات المتحدة قد دمرّت أوكرانيا, واليوم يتوقعون إنهيارها وتقسيمها, في وقتٍ أعلنت فيه روسيا مراراً بأنها مستعدة للمفاوضات, كذلك تأكيد الرئيس بوتين بالأمس “استعداد موسكو لإجراء محادثات جدية حول أوكرانيا مع ضمانات أمنية لروسيا”، ورأى أن المفاوضات مع أوكرانيا يجب أن تستند إلى الواقع، وليس إلى الأمنيات”.
إن الإندفاعة الإعلامية والرسمية الأمريكية لإستمرار الحديث عن التهديد الفضائي والنووي الروسيين , وكلامه عن عدم وجود خطوط حمراء, دفع الرئيس بوتين للرد عبر لقائه مع مدير وكالة “روسيا سيفودنيا”, بأن روسيا تقنياً مستعدة للحرب النووية, وأنها لن تتوان عن استخدام سلاحها النووي إن شعرت بتهديد وجودي, وبأن وجود القوات الأجنبية في أوكرانيا لن يغير الوضع في ساحة المعركة, وإن ظهرت قوات أمريكية في أوكرانيا فنتعامل معها باعتبارها قوة متدخلة, واختتم حديثه متوجهاً إلى النخب الغربية بالقول “حفل مصاصي الدماء على وشك النهاية”.
يبدو أن العدوان الأمريكي الإسرائيلي الغربي على غزة, وحاجة الكيان الإسرائيلي إلى الدعم الغربي, واحتمالية تحول العدوان إلى صراعٍ إقليمي ودوليٍ كبيرين, قد يساهم بوضع الملف الأوكراني على طاولة المفاوضات على قاعدة إستسلام أوكرانيا, ومناقشة الخريطة الجيوسياسية الجديدة للمنطقة ولأوكرانيا الجديدة, وفق المقترح -غير الرسمي- الذي قدمته القيادة العليا للناتو في اّب/2023, الذي صاغه خبراء السياسة الخارجية الأميركيين, ويتضمن الاعتراف بخسارة أوكرانيا الحرب وجزءاً من أراضيها, وحصول أوكرانيا الجديدة على الحكم الذاتي الإستراتيجي، الذي سيضمن لها الهروب من النفوذ الروسي من جهة, وعدم إنضمامها إلى الاتحاد الأوروبي أو الناتو, وبهذا الشكل يتحدث المقترح الأمريكي عن استسلام أوكرانيا كمسلك لا مفر منه لضمان السلام والإستقرار على المدى الطويل في المنطقة.
م. ميشيل كلاغاصي // 16/3/2024