إشارية اللغة الشعرية
إضاءة على مجموعة (عصافير تنقر سنابل كفي)
للشاعر توفيق أحمد
أ. د.غيثاء قادرة
ينفتح النص الشعري على سلسلة لا متناهية من الإشارات والدلالات النصية المفتوحة؛ حين تثير اللغة الشعرية الدهشة في اﺳﺗﻘطابها اﻟواﻗﻊ ﻓﻲ طﺑﻘﺎﺗﻪ اﻟﺧﻔﯾﺔ ، وحين تغدو الصورة الشعرية فيه ﻣﺳرحاً ﯾﺟﻣﻊ ﻓﻲ ﺳﺎﺣﺗﻪ اﻟﺗﻧﺎﻗﺿﺎت، ويصهر اﻟﻌﻼﻗﺎت اﻟﺑﻧﯾوﯾﺔ داﺧل اﻟﺗﺟرﺑﺔ اﻟﻛﻠﯾﺔ ،ولاسيماإذا كانت الصورة مزدوجة الهدف والغاية، تحمل قيمة فكرية وجمالية يفصح عنها الإيقاع . هذا ما نشهده في مجموعة (عصافير؛ تنقر سنابل كفي) لشاعرها توفيق أحمد الذي يأخذنا على شواطئ الصورة الشعرية لنبحر في لغتها التصويرية ووقعها الموسيقي وبعدها الدلالي .
في مجموعته المعنونة ب (عصافير تنقر سنابل كفي) نثقف اللغة في أبهى تجلياتها من مفاتيح النصوص :العناوين ، التي تحمل في بنياتها اللغوية التصويرية طاقاتٍ إيحائية بالغة التأثير أنتجها نظام فكري دعانا إلى الوقوف عليها بدءًا بالعنوان الرئيس (عصافير؛ تنقر سنابل كفي) الذي يعد شيفرة تحيلنا إلى تعجب ورفض مبطَّن لفعل النقر القائم على الاستلاب الذي تقوده كائنات وديعة ألفت الأخذ ونبذت العطاء .
وفي مطالعتنا لعناوين النصوص التي تشكل مفاتيح تقودنا إلى بعد دلالي تضمره اللغة التي ثارت بتمرُّدها العنود على مألوف الكلام ، نلفي في لغة النصوص قفزًا فوق تضاريس الكتابة العادية ، و كسرًا لنمطية الخطاب ومخالفة لسنن اللغة وانفلاتًا من هيمنة الوظيفة التواصلية الإبلاغية في إطار تأسيس جمالية دلالية و إنشاء علاقات لغوية قائمة على مبدأ الانحراف الدلالي .
يستخرج توفيق أحمد من اللغة أقصى طاقاتها التعبيريَّة والدلاليَّة والصوتية حتى بدا مناضلًا لغويًا على حد تعبير/ ألبيريس/ ، إذ يجعل اللفظة تشع بطيف واسع من المعاني حين يزيحها عن مدلولها الأصل مفجرًا إياها إلى معان وطبقات .
ونستدل بقوله الآتي:
/كيف للمواقد أن تَعْرِفَ طَعْمَ النيران؟ وكيف للحياة أن تكونَ وازنَةً ، بلا سيداتٍ للجَمال وابتكارِ الحياة ، /سلامٌ على الحرائق التي تُرَمِّد فاعليها لينهضوا من جديد ، يرتكبون عبثاً جميلاً جديداً /ص29.
تأسست اللغة هنا على الاختلاف والمغايرة ، فالنار المحرقة هي النار المحيية .
ثمة رمزيةٌ للنار في النص نستقرئ فيها بعداً أسطوريًا، ولاسيما حين تغدو النار وسيلة بدء الحياة أو يغدو الاحتراق جسر عبور إلى ضفة حياة أخرى. وعبثًا آخر .
فتبدو اللغة المزدحمة بإشاراتها رسمًا مكثفا وأرضاً خصبًا لتفاعل الإشارات التي تنفتح على آفاق رؤيوية غير متوقعة:
أَنْتِ التي تَبني النُّسورُ بيوتَها على قَلَق أصابِعِكِ ..
وأنتِ التي تواجهين الموجَ المُداهَم فيعودُ إلى العُبابِ
شاربًا من أقداح عينيك ما يَجْعَلُهُ مُنْتشياً ص31
تنطلق اللغة في هذا النص فتأبى الانقياد؛ تتفلت من عنانها حيث تتكثف طاقاتها التعبيرية لتعطي شرعية تجاوز الإطار الفكري الضيق إلى آفاق رحيبة؛ إذ تثير هذه الجملة الشعرية السوريالية عنصر الدّهشة فكيف يتم البناء على كثيب متحرك؟ أية استعارة للأرض القلقة، وأي بناء وأي قلق هذا؟
يفتح الشاعر باب الدهشة والسؤال على مصراعيه حين نقلب في طبقات الصورة وبين إشاراتها لنلج من الأفقية إلى العمودية ،من الإيحاء إلى أقصى الدلالات التعبيريّة ،فتحضر المراوغة والاستثارة ، والفرّ في طبقات النص الشعري الذي أضحى شبكة علائقية من الإشارات، الموحية، والمنفتحة بعمق ، لكشف الدلالة المسكوت عنها . يقول
يا يمامةً تُعَرْبِدُ بظنوني وأنتِ تَكتبينَ الغَدَ بأصابعَ من أَمَلٍ
تأخري قَدْرَ ما شِئْتِ
احتمي بنصوصك الثريةِ وأوراقِ الماضي
واكْتمُي ما اسْتَطَعْتِ أساطير وَجْدِكِ
سَخِّري إبداعَكِ النضيرَ
لجاهليةِ أولئكِ الكَتَبةِ المدّعين
وسوف لن أَرْفُضَ مصادرةَ عينيكِ185
ثمةَ تفاعُلٌ تصويريٌّ مُرَكَّبٌ، وانزياحٌ إيحائيٌّ خِصْبٌ، يحضر في المصفوفة التصويرية المتراكبة فتأتي (الصورة ضمن نظيرتها) وفق منظومة تصويرية مركبة يقودنا ثراؤها الدلالي، إلى قيمة بؤرها النصية التي تزدحم في ياء المؤنثة المخاطبة الرامزة إلى الأرض التي سعى من اعتدى على تراثها لإغماض تاريخها ويدعوها إلى التمسك به رغم كل ما مرّ عليها.
تتحقق بلاغة الكلمات في نسقها الشعري بروابطها الحجاجية ، وتفاعلاتها البليغة التي تملك الطاقة التخييلية العالية؛ وهذا ما لاحظناه في سلسلة التفاعلات الجمالية التي تثيرها اللغة الشعرية .يقول في نص (قَمَرٌ شماليٌّ يضيء لغايةٍ في نَفْسِ الريح):
يا لَلجموح العاصف بمخيلتي
يهدمُ الحدودَ بين الواقع والمتعالي
بين المُدْرَكِ والمتواري
فما الذي سأقوله لقمر شمالي
عبر أفاقي كَهبَّةِ ريح عجلى
ومازالت أضواؤُهُ تُخاتِلُ أمدائي
مرةً تلوح ومرةً تغيب
أَلَسْتِ أنتِ أنا
المتصوِّفُ يا سيدتي ؟
القابعُ على تخوم يا سمينك
أُصادقُ اللحظاتِ وجنونَ الحالمين ص72-74
لقد أقام الشاعر علاقة غير متوقعة بين الداخل وما يعتمل في الذات من هواجس ومدركات والخارج وما فيه من محسوسات ؛ إذ يوظف الشاعر في صنع المفارقة التي تفصح عن قدرة إيحائية في تصوير ما يعتمل داخل الذات من مشاعر وانفعالات تقود الشاعر للتعبير عنها .
ينتقل الشاعر من العموم إلى الخصوص من الفلسفة إلى الذات في تيهها مع الآخر فثمة بعد صوفي نَثْقَفُهُ في هذا النص، وذات آلهية حاضرة بقوة التكثيف والعمق. فهو ينتقل من الحيرة إلى الاستفهام المكثف محدثا في انزياحه خلخلة في بنية التوقعات التي تؤثر في عملية التطابق بين الدال والمدلول .
لا يأتي الشاعر بالتفاعلات الإشارية بوصفها منظومة علائق جدلية للرؤية الشعرية فحسب؛ وإنما بوصفها طاقة إيحائية لا غنى عنها في إكساب الرؤية طابعها الفني الإيحائي المميز. فالنص الشعري لديه يملك إشاراته التناصية الفاعلة التي ترفع وتيرة الرؤية، وتضاعف من دلالاتها، هو نص لديه مرجعية رؤيوية عميقة، أو مقصدية متأصلة إبداعياً.
(أيها الشغوفان بِفُتُوَّةِ الينابيع ،ارْأَفا بالبيادر الخضراء ،لتكفيكما لزمن يابس ما)ص32
نستقرئ في قوله هذا دعوة يستجدي فيها الآخر- المثنى – أن يقرأ المستقبل بدءًا من الحاضر ، فالخضرة يستتبعها يباب والموت تستتبعه حياة ، وفي ذلك يتناص مع سورة يوسف عليه السلام في آية التأويل .
يملك الشاعر خيالًا خصبًا, ولاسيما حين يحقق التفاعل الصوتي في المجموعة الشعرية أثره الفاعل، على مستوى البنية الداخلية والخارجية ؛ إذ تتفاعل الأصوات ،وتتناغم، مع العلم أن الانسجام لا يتجلى في التناغم دون التنافر؛ ذلك أن تنافر الأصوات قد يشي بمواقف تنسجم مع ثقل المفردة ؛ بل إن الانسجام قد يتولد من المتباينات أحيانًا:
فلنتأمل قوله في نص (رَشَؤُها أَيْنَعَ في عينِ الجبل):
هي من حِصَّةِ الأجداد
الذين تقاذَفَتْهُمُ الجهات
ومِنْ ذاتِ بصمةِ الدم/ جنونٌ كامِنٌ
لم تَلْحَظْهُ ماضويَّةُ الغابة رغم بصيرة أشجارها الثاقبة
طَوَّعَها تُفّاحُ صوتي
وزَيَّنَ لها الخطيئة 228
تتناسل خيوط النص وتتداخل في علائق تشكل تفاعلاتها الإشارية غاية في الإثارة والتعقيد.
فثمة التفاتات تحضر في النص مع مفارقات تتعدى فيه الإشارات النصية مرجعيتها لتكتسب دلالات إضافية؛ فمن جمال التفاح في الصوت إلى قبح الخطيئة التي ازَّينت يتدرج . يحضر الماضي العريق بثقل يخفف وطأته فيكون في زمن الخطأ .
تتخذ القصيدة عنده تفجيرات انشطارية مؤسسة لانزياحات بعيدة عما استدعيت له الدلالة فيلبس النص رداء آخر يمارس من خلاله اللعب باللغة مؤسِّسًا مستويات بديلة .
بدت اللغة في إشاراتها مشكِّلة للمعنى ، ومركزًا تتفاعل فيه جميع عناصر الخطاب الشعري وتتضافر في حزمة تشع بالإيحاءات والدلالات التي يستقبلها المتلقي فتتفاعل مع حواسه ومشاعره ومخزونه المعرفي فتثير فيه أحاسيس ورؤى وأفكاراً .