الاتجاه النفسي و الّلغة
في رواية (جُمان… حبة اللؤلؤ) للكاتبة الروائية
الأستاذة مهى قباني Maha Kabbani
ما أن بدأتُ القراءة حتّى أمسكت الرواية بي فأنجزت قراءتها في يومٍ وليلة و تركتني مبهورة الأنفاس .
تبدأ الرواية باستدراك بحرف العطف (و) للسنة فصول أربعة، وكأنْ الروائية تستكمل ما روت مسبقاً لتروي مرحلة من حياة شخصياتها وتأثير الأحداث الماضية عليهم نفسياً و حياتياً، نتعرف على ( حياة ) التي يصادف عيد ميلادها عيد الاكيتو ( رأس السنة السورية) وهي رسامة كاركتير، تحبّ الموسيقى و الشعر، ستينية متأثرة بحادثة وقوعها على الدرج وفقدانها جنينها في الشهر السادس، ولم تحبل بعدها مما أثر في نفسها و روحها محمّلة زوجها ( سمير ) ملامة الفقدان في قلبها لأنه تسبب في سقوطها، ومن خلال العلاقات الاجتماعية مع الجيران نتعرّف على عائلة ( توفيق الجابري ) وزوجه ( سعاد ) وبناته و ظهور عائلة من المُهجرين الناجين من الأماكن الساخنة إبان الحرب على سورية هم ( نديم ) وأمه ( ليلى ) وأخته، تتعلق ( حياة ) بالشاب ( نديم ) المنطوي على نفسه لأنّه شاهد أباه يُقتل أمام عينيه ولم يتجاوز الثانية عشرة من عمره و يُحمل نفسه مسؤولة قتل أبيه لخوفه الشديد من أكتشاف مكانه فلم يتصل بعمه.
و تجد (حياة ) في( نديم ) شبيهاً لابنها فتعمل على جذبه طالبةً إليه أن يعلمها كيفية العمل على الحاسوب ( اللاب توب) فيعتذر كونه لايعرف ولا يمتلك لاب توب وتصرّ ( حياة ) ان تأتي بأستاذ يعلمهما معاً، وتنجذب ( ديمة ) ابنة( توفيق ) لنديم فتنتظره كلّ يوم قرب سور الحديقة مع باقة ياسمين يتناولها ويمضي دون أن يتكلم، مع تداعي الأحداث نكتشف أن أحلام ( حياة ) ، و أحلام ( نديم ) أيضاً تؤثر فيهما و في أسلوب تعامل كلّ منهما، و بالتعاون مع ( نديم ) يعمل ( سمير ) على توجيه زوجته ( حياة ) إلى طبيب مختص بالطب النفسي فيشخّص حالتها بالوهم الضلالي (الوهام) فهي تظن إنّ ( نديم ) ولدها وعاد إليها، ومع تنامي الأحداث و تطور الشخصيات نجد ( نديم ) يحاول التخلص من عقده النفسيْة و انطوائيه فيرافق صديقه في العمل ( غالب) إلى ملهى ليلي ليتعرف على عالم آخر خاصْةً إنه لم يعرف أنثى من قبل، رغم اشتياقه لحبْ الطفولة ( جُمان) وعندما لم يستطع الانخراط باللهو، وجد هدفاً وهو أن يكتب عن الأسيرات و المعنفات والعاهرات اللواتي غيرت حياتهن الحرب، و بات يرافق ( غالب ) كلّ خميس للتعرف على حياة وقصص فتيات الليل وذات يوم تظهر راقصة جديدة تضع قناعاً من الدانتيل مختلفة و يشعر بانجذابه إليها و رغم شعوره يصرُّ على معرفة قصتها في ذات الوقت تتوطد علاقته بابنة الجيران ( ديمة ) إذ تطوع لمرافقتها للمركز الامتحاني لانشغاليَّ والديها بالمراقبة نظراَ لعملهما بالتدريس .
ويتعامل مع ( ديمة ) كصديق حميم مما يزعجها، ورغم إحساسه بضرورة الابتعاد عن (جيجي – الراقصة ذات القناع) لا يبتعد بل يلح على معرفة قصتها ضارباً بنصيحة ( غالب ) عرض الحائط… ويصبحان مهددين من قبل ( أبو صخر ) صاحب الملهى .
من جانب آخر نرى ( حياة ) تعمل كمعلمة رسم في مركز للأيتام فيناديها أحد الصغار ( ماما) ويتضح إنْها تشبه أمه المتوفاة .
ونعرف فيما بعد أن ( جيجي ) هي ( جُمان ) حب طفولة ( نديم ) وهو يبحث عنها من الصف السابع، و رغم حبّه الشديد لها يأنف مما آلت إليه فبعد موت أهلها في إنفجار أضحت ضحية لسفلة عالم الليل، و يخطب ( ديمة )، بينما تقنع ( حياة ) زوجها بتبني ( سامي ) و أخته فيوافق على مضض بعد أن وعدت ( ليلى ) أم نديم بمساعدتها بتربية الطفلين .
يعمل ( نديم )برفقة غالب على تهريب ( جُمان ) من سطوة صاحب الملهى.. وينجحان في ذلك بمساعدة حياة و ديمة
ولن آتطرق للنهاية لئلا أضيع متعة التشويق على القرّاء .
** الاتجاه النفسي :
لا أحد ينكر أهمية الصحة النفسية لكلٍّ منّا، وقد تناولت ( الأديبة قباني ) شخصياتها بأبعاد سيكولوجية (نفسية) فلكلّ شخصية لديها معاناتها و ألمها النفسي ولكلٍّ أسبابه :
( حياة ) حُرمت من الأمومة بسبب حادث فأصيبت بمرض الوهم الضلالي فظنت إن ( نديم ) ابنها وعاد إليها رغم تصرفها باتزان فيما عدا ذلك .
و( نديم ) رأى والده يُقتل أمامه دون أن يستطيع حمايته فأصيب بالتوحد الانعزالي .
و( سمير ) حمل ذنب موت ولده الجنين مما أصابه بالحزن المزمن .
( غالب ) الذي ماتت أمه منتحرة كان ردّه عكسياً رغم حزنه الشديد تعود أن يقضي وقته في المرح، و تقبل ماضي( جيجي ) ورأها ضحية مثل أمه التي ظلمت واغتصبت و قضت منتحرة .
أبدعتِ الكاتبة بإيجاد حلول لشخصياتها فكافأت ( حياة ) بملء حياتها بتبني( سامي ) و أخته و حبّ ( سمير ) الصادق .
و كافأت (نديم ) بحبّ ( ديمة ) و من حوله و عائلته،و عوضته عن حبّ ( جُمان ) التي افترق عنها صغيراً بسبب التهجير وكبيراً بسبب تلوثها وسقوطها الاجتماعي .
** و من الناحية الاجتماعية :
تطرقتِ الكاتبة إلى الكثير من الأمراض الاجتماعية الناتجة عن تداعيات الحرب مثل اليتم و التهجير واستغلال الفتيات و تشغيلهن في الدعارة و الكسب غير المشروع و تزوير جوازات المسافرين غير الشرعيين، وموت المخاطرين بالهجرة عبر البحر و الحبّ والغيرة، و ناقشت قضية الوجودية و البحث عن الذات بحرفية عالية .
** الّلغة :
تنوّعت لغةُ القصِّ بين السرد و الحوار و الوصف فقد عكست الواقع ممتزجاً بالخيال و الأحلام مما شكّل ايديولوجيا ليست عقلية صرفة تتمثل انعكاساً للبنية الاجتماعية والواقع المادي بل تستكين في وسيلة التعبير الأدبي عبر اللغة بوعي خاصّ يعمل على جذب الإنتباه إلى طبيعتها الخاصة و نظامها الصوتي َ التركيبي مما عزز وحدة الشكل و المضمون .
لكني أخذت عليها استخدام مفردات عاميْة أثناء السرد أيّ على لسان الكاتبة وليس الشخوص مثل ( تحمم بدل استحم وبلعة بدل جرعة….) فمن المعتاد أن ينطق المؤلف شخصياته وفق مستواها ومن الجائز استخدام العامية في لغة الحوار لا السرد.
** مصادر المبدعة :
وظفت ثقافتها الموسوعية في السرد الحكائي بحكمة مثل عيد رأس السنة السورية أكتيو، عشتار، جلجامش، سيزيف، فالنتاين…. وغيرهم .
ورغم إنها لم تشر لثقافة دينية معينة قبست من فكر السيد المسيح في قولها: الله سيحاسبك على يأسك، فاليأس خطيئة لا تغتفر .
و تناصت مع آيات القرآن الكريم في قول جُمان :
(لا يصينا إلا ما كتب الله لنا….
ومع تعاليم السيد المسيح و القرآن الكريم معاً في قولها : ( ولا تقتلوا أنفسكم….
و استقت المذهب الوصفي من جمال الطبيعة و الواقع .
خلصت المبدعة( قباني ) إلى نتائج من خلال المواقف الإنسانية التي جرت و أهم ما لفتني :
” إنّ الإنسان كائنٌ متناهٍ (محدود) في داخله يسكن الله اللامتناهي لذلك هو جميل سرّه كبير، لقد وضعه الله بهذا المقام لكي يبدع و ينجح و يحبّ ويعشق” .
# ( إنّ للحقيقة جناحين لا يراهما إلا من كان قلبه ممتلأً الحبّ؛ لأنّ الحبّ هو الحقيقة الوحيدة التي تطهرنا، وتفتح أعيننا على منابع الخير و العطاء وتدلنا على الطريق القويم ) .
** نبارك للكاتبة الروائية إصدارها الثالث بعد ( عائدة .. ، و المصير شموس لا تغيب … ،و جُمان .. حبة اللؤلؤ)
•• د . آسيا يوسف .
كل التفاعلات:
Hiyam Salman، وHanan J Hanna و٣١ شخصًا آخر
١٧
أعجبني
تعليق
مشاركة

















