د.احمد مبارك الخطيب
محظوظ أنت يا جرول بن اوس ، لأنك مخضرم شهدت الجاهلية المتأخرة ، وبداية مرحلة الإسلام . علما أن جاهليتك استمرت في الإسلام ،و لم يدخل إلى قلبك ابدا ذرة إيمان بالدين الجديد ، فماأن حصلت الردة حتى انضممت إلى المرتدين ، وقلت بيتيك المشهورين :
أطعنا رسول الله إذ كان بيننا
فيالعباد الله مالأبي بكر
ايورثها بكرا إذا جاء بعده ؟
فتلك وبيت الله قاصمة الظهر
الإسلام إذن لم تعره اهتمامك ، لا بسبب مكانتك الرفيعة كمكانة ابي جهل الشخصية الجاهلية التي تمتعت بمناقب رفيعة ، ورفضت الإسلام من موقع المكانة ، وإنما لأنك جبلت على مفاسد الاخلاق ، ولم تحظ بتربية سليمة ، فكثيرون مثلك عانوا الفقر والإذلال والحرمان ، وظلت نفوسهم كبيرة ، ورفضت الدونية ، كما فعل عنترة ابن قبيلتك( عبس ) مثلا .
كنت تكره الناس جميعا ، ولذلك كان الهجاء ملعبك ، ومتعتك ، ووسيلتك لتشبع نفسك من كراهية الٱخرين . أنت لم تكن تؤمن بأية قيمة أخلاقية ، وهجاؤك لم يكن غرضه هتك الصفات الذميمة لدى مهجويك ليتعظ قارئوك ، فينفرون منها ، بحيث تؤدي قصائدك الهجائية غرضا إيجابيا . لا . لم تكن تعرف هذه المنقبة ، وإنما كان هجاؤك دونيا في شعرك كله . وقد دفعتك نفسك الخبيثة إلى هجاء كل من حولك ، ولم ينج والداك من هجائك ، وحينما لم تر من تهجو هجوت نفسك ، وكنت في هذه منصفا . وساذكرك بما هجوت به اباك ،بقولك :
فنعم الشيخ أنت لدى المخازي
وبئس الشيخ أنت لدى المعالي
جمعت اللؤم لاحياك ربي
وأبواب السفاهة والضلال
وهجوت امك بقولك :
تنحي فاجلسي مني بعيدا
اراح الله منك العالمينا
أغربالا إذا استودعت سرا
وكانونا على المتحدثينا
وهجوت زوجتك فقلت :
لها جسم برغوث وساق بعوضة
ووجه كوجه القرد بل هو أقبح
وهجوت نفسك وانت تستحق ذلك بجدارة ، إذ قلت :
أبت شفتاك اليوم إلا تكلما
بسوء فلا ادري لمن انا قائله
أرى لي وجها قبح الله خلقه
فقبح من وجه وقبح حامله
هجاؤك نفسك قضية شخصية ، أما هجاؤك لوالديك ، فقد أصبحت به سبة على الألسن ، يلوكها الناس باستهزاء بك واحتقار لخلقك الرديء .
ثم إن الخليفة عمر بن الخطاب ، يا أبا مليكة ، وردته شكوى من الزبرقان بن بدر سيد قومه عن هجائك اللاذع له ،الذي قلت فيه :
دع المكارم لاترحل لبغيتها
واقعد فإنك أنت الطاعم الكاسي
وهو هجاء مر ، شبهته بالنساء اللواتي يقعدن في بيوتهن ، وينتظرن من رجالهن أن يطعموهن ويكسوهن ، فلا يغادرنه .
الخليفة عمر لم يتسرع بتأديبك ، فقد استشار الشاعر حسان بن ثابت في ابياتك إن كانت هجاء ام معاتبة ، كما فهمها عمر ، فكان جواب حسان ،إن الحطيئة لم يهج الزبرقان فقط ، بل سلح عليه . وعندئذ قرر عمر سجنك في زنزانة لاترى فيها النور ، ولم يقنع بكل استعطافك له الا حين قرأ قصيدتك البالغة التأثير ، التي استخدمت فيها شاعريتك التي تقول فيها :
ماذا تقول لأفراخ بذي مرخ
زغب الحواصل لا ماء ولا شجر
ألقيت كاسبهم في قعر مظلمة
فاغفر عليك سلام الله ياعمر
فاعطف على صبية بالرمل مسكنهم
بين الاباطح يغشاهم بها القدر
عند ذاك فقط رق قلب عمر على ابنائك الجوعى ، فعفا عنك، ثم احضرك بعدها وطلب اليك أن لاتخاير بين الناس فتقول فلان خير من فلان ، فماكان منك، إلا أن أجبته بوقاحة ، وقلت له : انت اهجى مني ، فغضب عمر ، وقال : لولا أن تصبح سنة لقطعت لسانك ، ومع ذلك ، فقد اشترى منك أعراض المسلمين بثلاثة ٱلاف درهم ، ثم نقضت العهد بعد موته مباشرة .
أما القصيدة التي تناقلتها الأجيال ، وتعد نموذجا متقدما لشعرك ، فهي ( قصة كرم ) التي رأى فيها دارسون أنها تشكل سابقة في القصة الشعرية بكل عناصرها ، وسنختار منها بضعة ابيات فقط ، إذ تقول عن بدوي في الصحراء يعيش مع اسرته يعاني الجوع والفقر المدقع ، رأى شبحا من بعيد ، ثم مالبث أن ظهر ضيفا ، فاهتم الأعرابي ، وهو لايملك قوت يومه، كيف سيقري الضيف ؟ وحين وجد ابنه أباه على هذه الحالة قال لأبيه اذبحني ياابت ويسر له طعاما ، حتى لانصبح سبة بين القبائل ، لكن الفرج أتى بسرعة ، فرأى الأب سربا من حمار الوحش ، فوجه سهمه نحو واحدة ، فاصطادها ، وقدم للضيف الطعام وحسن الضيافة ، وفي ذلك قلت ياحطيئة :
وطاوي ثلاث عاصب البطن مرمل
ببيداء لم يعرف بها ساكن رسما
وأفرد في شعب عجوزا إزاءها
ثلاثة اشباح تخالهما بهما
رأى شبحا وسط الظلام فراعه
فلما بدأ ضيفا تسور واهتما
فقال ابنه لما رٱه بحيرة
ايا أبت اذبحني ويسر له طعما
فروى قليلا ثم أحجم برهة
وإن هو لم يذبح فتاه فقد هما
فبينا هما عنت على البعد عانة
قد انتظمت من خلف مسحلها نظما
عطاشا تريد الماء فانساب نحوها
على أنه منها إلى دمها اظما
فامهلها حتى تروت عطاشها
فأرسل فيها من كنانته سهما
ثم يتوافر بعدها الطعام للضيف وتفرح الأسرة ، وختمها بقوله :
فبات أبوهم من بشاشته أبا
لضيفهم ، والأم من بشرها اما
وقد أعجبت هذه القصيدة نقادا كثيرين و ورأوا فيها سبقا إلى القصة الشعرية . لكن القصة رغم حشد العواطف وحرارتها ، بدت متكلفة جدا ، وتحتاج إلى عنصر الإقناع ، لأن السيناريو الذي اتبعه الحطيئة كان مفككا، ولم تسعفه جمالية اللغة وشاعرية الابيات وألفاظها التي بنت عالما من الأسى لتقديم خاتمة مريحة . هذا بالإضافة إلى أن حديث الحطيئة بهذه المبالغة في الكرم ، يراه بعضهم إنما هو تغطية لبخله الشديد الذي عرف به .
* * * *
أود أن أشير إلى أن سبابتين ترتفعان لتذكر القارئ بهما .
الاولى أنه حين قرر الحطيئة أن يزور المدينة ، جمع له أهل المدينة مبلغا من المال وخرجوا به إلى ظاهر المدينة لاستقباله ، تجنبا لهجائه بهم واحتفلوا به في المدينة .
والثانية ، أنه حين جاءه الموت طلب أن لاتقام له جنازة ، وأوصى أن يركبونه على أتان بالمقلوب وتظل تسير به حتى يموت ، وقد حصل ذلك .
واخيرا ، لقد ذهب الحطيئة ، وبقي هجاؤه ،واعطى القارئ صورة قاتمة عن شاعر لم يعرف التاريخ الادبي مثيلا له في دناءته ، وقلة أدبه ، واتساع دائرة هجائه .