الدكتور /عبد المعين المضرحي.
مرايا شعرية، مجموعة قصائد ألفيتها في منشور فيسبوكي للأستاذ الأديب/ عبدالغني المخلافي، من ديوانه المخطوط : مرايا الفجر، اجتذبتني تلك المرايا فطالعتها بشغف، ولكن ، ما أن انتهيت حتى شعرت بأشياء كثيرة تشدني لإعادة قراءة واستقراء مكنوناتها بشيء من التركيز والمقاربة، والحقيقة أني خلصت من قراءتي المتريثة – مقارنة بالمطالعة الأولى – لتلك المرايا إلى يقين بأن إجلاء مكنونات تلك المرايا ، ومكاشفة جمالياتها ،وسبر أغوارها، ومحاذاة دلالاتها بكل أبعادها، أمر يتطلب الكثير من الوقت، ومع ذلك فسيكون من الغبن واللامسؤلية الأدبية المرور أمام تلك المرايا بصمت ولامبالاة وتأنيب ضمير، فارتأيت إزاء ذلك، أن أسرد في مقالي هذا ما كشفت عنه مقاربتي التأملية لعناوين تلك المرايا، إنصافا للشعر والشاعر، ورغبة في منح القارئ الكريم بعض جماليات تلك العناوين ومكنوناتها الدلالية.
ففي عنوان المرآة الأولى [جُبّ ] نجد أن لهذا العنوان مدلولات عميقة في الموروث الديني، فما أن نذكر كلمة (الجب) إلا وقفزت إلى أذهاننا قصة سيدنا يوسف عليه السلام، يوسف الذي تآمر عليه إخوته بدافع الحسد فكادوا له ،وألقوه في غَيابَةِ الجُبِّ، فالجب هي البئر المطوية – غير المبنية – التي تُحفر لكي يتجمع فيها الماء من باطن الأرض.وقيل إنَّ البئر غير المطويَّة سُميت جُبًّا لأنَّها قُطعت قطعًا ولم يُحدِث فيها الحافر شيئًا آخر غير القطع، وعلى خلاف ذلك البئر المطويَّة فإنَّه يتمُّ بناءُ جوانبِها حين الحفر وبعده لحفظها من الارتدام.
لقد كانت هذه القصة بكل أبعادها ودلالاتها حاضرة وبقوة في فكر الذات الشاعرة وهي تخلق هذا النص الشعري الباذخ، لدرجة رفيعة من التناص اللفظي لكل من مفردات (جب عميق، سيارة، تلتقطك) وهي ذات المفردات التي ارتكزت عليها قصة تآمر الإخوة. والسؤال الآن : هل أراد الشاعر أن يخبرنا بتلك القصة بطريقة شعرية واجزة؟! الجواب قطعا : لا، لأن ما يكشفه النص هو أن الشاعر أراد أن يناقش قضايا معاشة، فجعل قصيدته تتكئ على ركيزة تلك القصة بكل ما لها من ظلال ورمزية ودلالة، ليخرج لنا قصيدته بما هي عليه من تكثيف وإيحاءات ورمزية. وعليه فالوقوف أمام مرآة (جب) يعكس بوضوح ليس سقوط الذات الشاعرة في جب معيشة قسري، بل سقوط أو بالأحرى إسقاط – الإخوة والجيران بدافع الحقد – : وطن، ومجتمع، وشعب، وقيم وجمهورية، وحقوق، ومقدسات، ورموز، في جب عميق ،
وما يضاعف من هذه فضاعة هذا المآل، ويبرز مضارب الحقد الأخوي الدفين، هو أن الجب الذي أُسقطنا فيه، في منأى عن طرق المآرة ( السيارة).
في قصة يوسف، ودول العالم التي تدعي تمثل قيم الحرية والديمقراطية بالإضافة إلى الأمم المتحدة وكل المنظمات الدولية والحقوقية في العالم والتي لا تبدو مهتمة أصلا حتى وإن تنامت إلى مسامعها صرخات توجعنا، ناهيك عن كون الإخوة قد احتاطوا تحسبا لوقوع ذلك فأسقطوا البلد ومن فيها في جب عميق لبئر نائية عن السيارة والعيون والوارد. وإذا كان جب يوسف قد أفسح المجال لكثير من أمل النجاة في النفس بفعل التصاق البئر بطرق السيارة، وهو ما حدث فعلا؟ فإن الجب الذي أسقطنا فيه أضيق من أن يتسع لأي بصيص أمل في الخلاص والنجاة ؛ إذ :
لا سيارةَ تلتقطك
ولا رحمة تنزل عليك
حقد الإخوة هذا يتماهى مع مضمون المثل الشعبي :
لا يرحم ولا يترك رحمة الله تنزل
تلك هي الصورة المفجعة التي تعكسها مرآة المعزوفة الشعرية الأولى ( جب) ،وهي أول صورة سنراها ونحن نقف أمام مرآة المقطوعة الثانية [ قَعْر ]، فالقعر كما تقدمه معاجم العربية :مصدر قعَرَ: وهو منتهى العُمْق أو أقصاه أو نهايته أو أسفله.
هذا يعني أن الجب الذي وضعنا فيه ليس في منتصف البئر، بل في قعرها، أي في منتهى عمقها ،وهل هناك قعر أكثر عمقا من سبع سنوات مأسوية عشناها ولانزال، ولذلك تصرخ الذات الشاعرة مستفهمة:
كيف أتخطى
هذه اللُجَّة العظيمة؟
كيف أطفو
فوق هذا الموج؟
عالقٌ في فكِ تمساحٍ
كم مثلي
في هذا القعر.
تتعاظم الحيرة والسؤال معا، بحثا عن الخلاص خاصة ونحن نعيش في عصر يجسد القبح والانفساخ عن القيم والمثل الإنسانية السامية ،ناهيك عن أن مراكز القوى العالمية التي تؤثر في رسم سياسة البلدان النامية والضعيفة إضافة إلى منظومة الأمم المتحدة في جل مؤسساتها تكيل ليست موضوعية ولا نزيهة بمكاييل مختلفة، هذا الزيف والتناقض جعل الشاعر أكثر حيرة وتعجبا من هذا :
العالم الجبان لا يرحم
الشوارع تكتظ
بالمتعبين
لا أجد من حولي
ابتسامة دونَ دمعةٍ
كل يوم ألتقط كثيرًا
من المواجع.
لا مناص إذن أمام الذات الشاعرة من البحث عن خلاص والتفكير بحل يفضي للنجاة، ولكن كيف والجب في قعر بئر نائية، لا سيارة تمر بها، ولا رحمة تنزل علينا؟، وكيف يمكن ذلك والعالم جبان لا يرحم، والشوارع تكتظ – مع ما لفعل الاكتظاظ من دلالة الوفرة والتواتر والتكرار والاستمرار- المتعبين، والوحدة الحسية والروحية تقتلع السكينة وتنهش الطمأنينة، ولا شي غير المواجع التي نلتقط الكثير منها كل يوم؟!
على الروح أن تجد الروح في روحها، أو تموت هنا حد توصيف درويش
لا تعدم الذات الشاعرة حيلة في ذلك، لذلك تلوذ بمرتكز سرها الإبداعي، الخيال، فتختار الإبحار ،ولكن أين ؟ فلا مساحة ولا ماء؟! وكأن الذات الشاعرة تجيب عن حيرتنا قائلة: منذ متى كان الإبحار مقصورا على معناه الحسي الملموس،! وتضيف : إِبْحار: (اسم)،واِبْحار : مصدر أَبحر، وأَبحر: (فعل)،يقال :أبحرَ إلى، يُبحر إلى، إبْحارًا ، فهو مُبْحِر ، والمفعول مُبحَر إليه، فأبحر الشَّخصُ :ركِب البحرَ، وسافر على متن سفينةٍ ونحوها، سافر عن طريق البحر
وأبحرتِ السَّفينةُ: أقلعتْ،وأبحرتِ الأرضُ: كثُر تجمّع الماء فيها، تعدّدت مُستنقعاتها،وأبحر إلى جهة كذا: رَكِبَ البحر متَّجهًا إليها،أَبْحَرَ الماءَ : وَجَدَهُ مَلِحًا،أبْحَرَ الأرضُ: كثرت مناقِع الماء فيها،أبْحَرَ فلان: اشتدَّت حُمْرة أنفه.
أما المساحة فالخيال الشعري عوالم لا متناهية، وبحار الكلمات لا تجف ولا تنضب،، لذلك ستكون هذه هي الوجهة – والتي تبدو خلاصا مؤقتا- لذلك نجد أنفسنا أمام مرآة المعزوفة الثالثة والمعنونة ب[إبحارٌ ]
. وعليه فالإبحار الذي توخته القصيدة هنا هو إبحار معنوي معرفي، توعوي، تثقيفي، تنويري، شمولي، (يجتذب الكلمات بطريقة مواتية)، يقيم الاحتمالات ويقعدها بالبحث العلمي،( يتحسس) مستأنسا بقدرات العقل وبصائر الإدراك، إبحار تصحيحي شامل يمعن في التأملات والتناقضات، ويرجح، ويوازن، (يبسط الخيال في قلب المجاز) يطرح الأسئلة باعتبارها مفاتيح المعرفة الأولى ( يلج الأسئلة، يطرق الفكر) بكل مناحيه، التأريخية والسياسية والاجتماعية، والنفسية، والدينية، والإنسانية، بعقلانية ومنطقية وموضوعية علمية،( بلا رعونة) دون تطرف أو إفراط.إن إبحارا عاما كهذا الذي توخته الذات الشاعرة لا ينزع لغير التصحيح ووضع الأشياء في نصابها ومساراتها الحقيقية،وإذ هو كذلك فسيكون نبش الماضي الحابل بتشوهات كارثية – لاتزال إشعاعاتها السامة، تنبعث من ثقوب الأزمنة، وفجوات المعرفة المغلفة، والوعي المتخلف، والأفكار السطحية السامجة، لتلوث فضاءات حاضرنا وآفاق مستقبلنا – وتفنيد ما فيه من اعتوار واختلالات كل ذلك بإمعان وشفافية، وتريث ،وموضوعية وحيادية، تلك هي خلاصة إبحار الشاعر، وعصارة تأملاته، لقد استشرف الوضع الراهن ، وتتبع بمعرفته الثرية مساراته ،ومغذياته ،ودارس بثقافته وقراءاته الموسعة، معضلاته وكوارثه، فخلص إلى وجوب وحتمية إعادة النظر في الماضي ومناقشته ، ولم يكتف الشاعر بالتلميح لذلك ،بل صرح به دون مواربة ،وذلك في قوله: (أنبشُ الماضيَ بتريث.).
إن مهمة نبش الماضي، وإعادة قراءته الجادة ، تتطلب بإلإضافة إلى الموضوعية والحيادية، تجردا عن كل المسلمات والقناعات المسبقة، وانفصالا كليا عن جل موروثاته التنظيرية المتناقضة،واستقلالا بحثيا لا يركن لقناعات وأراء ومسلمات، واجتهادات، وقراءات، كثير من الأعلام والأئمة ،والمؤرخين، والمفكرين والكتاب،وفي سبيل تلك الغاية لا بأس من الاستئناس والاستنارة بفكر البسطاء الأنقياء الفطريين، من سواد الناس وعامتهم، الحافل بالحكمة ،والدراية،والتجارب الغنية،،هذا ما يقرره الشاعر ،ويدعو إليه، وهو ما تعكسه مرآة معزوفته الرابعة المعنونة ب[أنا وزوربا ]
من هو زوربا ؟
يبقى زوربا اليوناني أغرب الشخصيات التي تعرف عليها الكاتب و الروائي الكبير /نيكوس كزانتزاكس/ في منجم قرب خليج صغير و رائع.
و تظل علاقة نيكوس برفيق دربه , والشخص الذي أثر به كثيرا , و بطل رائعته الشهيرة ( زوربا اليوناني ) عامل المناجم البسيط من أكثر علاقات كبار الكتاب بشخصياتهم غموضا و جمالا و خصبا و التباسا.
لم يكن زوربا متعلما , إنما حكيم , تلك الحكمة التي تنساب كالنهر الرقراق في ليلة قمرية دافئة. وكان شخصا مفعما بحيوية و قوة و حس متدفق , وشهما , وكان عمليا , واقعيا، بسيطا، نقيا، عفويا.
كان زوربا يؤكد أن «الحياة الطيبة ليست باهظة الثمن»، كما كان يردد، وأن الحرية التي ينشدها جميع البشر هي حرية نسبية، وكان يضحك ساخرا ممن يدعي أنه حر بالمطلق قائلا:« لست كذلك، ولكن الخيط الذي يشدك أكثر طولاً من خيوط الآخرين. هذا كل شيء…. تجيء وتروح، وتعتقد أنك حر، لكنك لن تقطعه أبداً».كان لزوربا فلسفته الخاصة المستقلة ،فالسعادة عنده : « هي القيام بواجبك، وكلما كان الواجب أصعب كانت السعادة أعظم»، ولذلك … كان يمقت أنصاف الأشياء، ويري:
: «إن القيام بالعمل جزئياً فحسب، والتعبير عن الأشياء جزئياً، وأن تكون جيداً جزئياً، هو ما يجعل العالم في هذا العطب اليوم». كانت الإنسانية جوهر فلسفته فأخلص لها وأحبها جمعاء، ولم يكن يرى سواها من معايير التمايز الوضعية، ..، فكان لا يعير أي أهمية للقوميات والأعراق، ما يهمه في الإنسان، على حد قوله: «أهو شريف أم سيئ؟ هذا هو السؤال الذي أطرحه» قبل أن يختم عبارته بملاحظة ذكية، تلخص المصير البشري: «كلنا إخوة، وكلنا وليمة للديدان!»،عاش زوربا يستقبل متاعب الحياة كاستقباله لحبيب قديم، يرى الأشياء وكأنه يراها للمرة الأولى في حياته، وهذا هو سر عدم شعوره بالملل أبداً… يعيش جماليات يومه بتفاصيله الآنية، غير آبه بما سيحدث في المستقبل، وفي ذلك يقول:لقد تخلصت من التفكير بما حدث البارحة و لم أعد أفكر بما سيحدث غدا ً أن ما يجري اليوم و في هذه اللحظة بالذات هو ما أفكر به : ماذا تفعل الآن يا زوربا ? تعمل ? إذن اعمل بجد , تنام ?إذن نم جيدا ً , تعانق امرأة ? إذن عانقها بحرية و انس َ كل شيء آخر فالعالم لا يوجد فيه إلا هي و أنت …
ما جرى ويجري في اللحظة الراهنة، هو ما ينبغي التركيز عليه والتفكير به، هكذا قدم زوربا وصفته العلاجية لأمم كثيرة تهرب من مواجهة الحقيقة ومنازلة تحديات اللحظة والواقع، لتنزوي في سراديب تأريخ غابر، وتتجسده وتستدعي كل شوائبه ليزهقوا كل لحظة صفاء وأمل في واقع حياتهم الراهن، هذا ما نادى به الشاعر وعبر عنه : الوطن المنكوب
أَحَبُّ إِليَّ
من سجن الغربة الواسع
مع “زوربا” والصقيع
وكأس وحدتي المعتقة
لا شيء يستدعي الفرح
عدا اسْتِجْلاب الكلمات.
الشهوة كالنار تترك الرماد
عندما تنطفئ.
اتركوني ولو مرة
أستنشق الهواء
..
تراتيل هذه المعزوفة لا تختلف البتة عن فلسفة زوربا، وكأنهما ينهلان من نبع واحد، ويحملان هما إنسانيا واحدا، ولعل الشاعر لما وجد من التشابه والتطابق بينه، وبين زوربا، اختاره رفيقا له في رحلة إبحاره،
وسواء كان زوربا رجلا ً من لحم و دم عبر في حياة هذا الكاتب فعلا أم كان مجرد شخصية من ورق فالأكيد هو أن كل واحد منا يملك في أعماقه زوربا مفعماً بالجنون و الرغبات و المستحيلات زوربا أمّي بدائي يرقص بجموح و يأكل بشراهة و يضحك و يحب و يغني و لا يخاف ويعيش معتمدا ً على الحتمية القلبية التي تعطيه إياها روح بريئة لم تتعلم بعد الحذر و لا القلق روح مازالت تملك الدهشة و تتساءل ما ذا تعني الشجرة و البحر و الصخرة و الطير و يمارس بنهم طقوس الغضب و الحزن و الضحك و الجموح و الخجل و النسيان و الحب الحقيقي الذي يعرينا من وقارنا و حذرنا و حساباتنا الدقيقة الحب الذي يمكننا من أن نكون نحن بكامل غاباتنا و نملك تلك الروح التي تعتقد أن بإمكان إسفنجة أن تمحي كل الذنوب حين نعترف بها !!
كم هو محزن أننا في الظل نحاول أن نطلق هذا الزوربا في ساحات معتمة و ضيقة.
هذا هو زوربا الذي اختارته الذات الشاعرة لمرافقتها في رحلة الإبحار التصحيحي نحو نبش الماضي وحرثه وتثويره.
إبحار كهذا، برفقة وترسانة من المعرفة والحكمة الزورباوية ستكون ناجعة دون شك، و لن تذهب جهود خوضها هباء، الهباء الحقيقي هو كل ما هو حاصل الآن، هذا ما تعكس مرآة الشاعر الخامسة المعنونة ب [هباء] ، فالهباء في معاجم العربية [مفرد]: جمعه : أهْباء وأَهْبيَة، وهو :غبار، تراب تطيِّره الرِّيحُ ويلزق بالأشياء، أو ينبثُّ في الهواء فلا يبدو إلاّ في ضوء الشَّمس “هَباء الزَّوبعة” ، وفي القران :فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثورًا”، و أيضا شَيْءٌ باطِل وسريعُ الزَّوال “هَباءُ العَظَمة”
• وهو كذاك ما تطاير في البيت وتراه في ضوء الشَّمس شبيهًا بالدُّخان، ويُضرب به المثل لما لا يُعتدّ به وفي القران:” {وَبُسَّتِ الْجِبَالُ بَسًّا. فَكَانَتْ هَبَاءً مُنْبَثًّا} ” ، ذهَب عملُه هَباءً : أي: هدرًا، انتهى إلى لا شيء، بدون جدوى.
• و قليلو العقل من النَّاس. ، وهَباء جَوِّيّ : تعني (كم) مزيج غازيّ معلَّق من ذُرَيْرات صلبة أو سائلة، تلك هي التوصيفات التي قدمتها المعاجم، وهي أيضا ما تمثلته هذه المعزوفة التي تعكس مرآة عنوانها بصفاء واضح الهباء الممتد في كل مفاصل حياتنا ليس ابتداء من هباء الساسة وممارساتهم الصبيانية اللاهية ، وليس انتهاءا بمظاهر الموت الهباء التي مُنِي بها الفرد والحياة، والمسؤوليات، والأخلاق، وقيم المواطنة والانتماء، والهوية الإنسانية، والشعب، لقد التقت التوصيفات المعجمية للهباء مع توصيف الشاعر لهذا المفهوم، بقوله:
مُعلَّقٌ في الهباءِ
لا سماءَ ترفعني
ولا أرضَ تنزلني .
لقد جسد الشاعر الهباء بطريقة إبداعية منقطعة النظير .
إن انهزام الرفاق- والرفاق هنا معادل موضوعي لكل الوطنيين والخيرين والإنسانيين والنبلاء والشرفاء والمستضعفين، والبسطاء- وبقاء الشاعر الشعوري والوجداني والفكري وحيدا في مواجهة الريح، ولعل هذا أدق توصيف لما يواجهه المثقف والأديب أو حتى الشخص العادي، أعداء كالريح لا ملامح لهم ولا قيم ولا أخلاق، نهجهم العبث، وسلوكهم الفوضى وديدنهم النشاز.. أمام كل هؤلاء يقف الشاعر صامدا، ويلوح بقبضته المنهكة في مشهد درامي يحاكي ابتسامة النصر التي ترتسم في محيا مظلوم ممهورة بالدموع… تضع مرآة هباء الصورة جلية لكل ذي عينين، وتختزلنا جميعا داخل علامة استفهام كبيرة متسفهمة باستغراب: هل هناك هباء أكثر من أن ترى وطنا وشعبا بكل منظوماتهما ومكوناتهما ومثلهما معلقين في فضاء الهباء، لا سماء ترفعهما ولا أرض ينزلان عليها؟!
هذا ليس سردا تراجيديا مجازيا، بل هي واقعة قرعت أذهان وعقول وقلوب الجميع في هذا الوطن، واقعة كارثية ماثلة أمامنا ،وكل قفز عليها وتجاهل لها ولتبعاتها هو خرق لقواعد المنطق وأبجديات الفكر السوي والتفكير العقلي السليم، هذا ما يعكسه عنوان المرآة السادسة ،الموسومة ب[واقِعة] ،فالواقعة كما تقدم المعاجم : اسم مؤنث، مفرد، الجمع منه واقعات و وقائعُ
والوَاقِعَةُ :النازلةُ من صروف الدهر، وهي كذلك: المصادمةُ، وهي اسم من الوقعة بالحرب، وهي الصَّدمةُ بعد الصَّدمة،ورجلٌ واقعةٌ: شجاعٌ،والواقِعة: وهي أيضا من أسماء القيامة،واسم سورة من سور القرآن الكريم، وهي السُّورة رقم 56 في ترتيب المصحف، مكِّيَّة، عدد آياتها ستٌّ وتسعون آية،وعند الفلاسفة والمتصوفة: ما حدَث ووُجد فعلاً ويتميّز عن المتخيَّل والمتوهَّم، حدث حقيقيّ، أما الفقهاء فهي عندهم : الحادثة التي تحتاج إلى استنباط حكم شرعي لها . والواقعات: الفتاوى المستنبطة للحوادث المستجدة. هذا الحشد من التوصيف المعجمي، ليس إلا استجابة لحشد دلالي مكثف أودعه الشاعر في كنه هذه المعزوفة، ولأن الشاعر يريد إقرار ووعي الجميع بالواقعة- بتشظياتها وأهوالها المتعددة ككارثة حقيقية ملموسة ،لا مفترضة أو ماخيلة-فإنه يسند ذلك التوق، بما يزيده ثباتا وملموسية، ولذلك نجده يستهل معزوفته هذه بالتساؤل:
ما الذي أوقعك في هذا الجرف ؟
ما الذي زج بك في هذه الهوة ؟
هذه التساؤلات، ليست تعجبية، بل هي استنطاقات ذهنية تتقصد مخاطبة الوعي والإدراك، بغية الإجابة الواعية عنها، ذاك أن الإجابة عنها تكشف عن أسباب الواقعة/ الكارثة، وإذا عرف السبب بطل العجب، وسهلت حينها المعالجة… ينتقل الشاعر إلى خطاب الغائب على اتساعه الدلالي (الشعب، الإنسان، الوطن، ) ناصحا له بضرورة التركيز على العقل في التعامل مع الإشكاليات والوقائع القاتلة، دون الركون إلى الغنائيات والخطابات والقصائد والمواقف والانفعالات التي تخلقها العاطفة وسرعان ما تزول، ناهيك عن مجانبتها للصواب غالبا، وويحرص الشاعر على تأكيد ذلك المبدأ بقوله:
لا قصيدة تمنحك حروفها المنقذة
ولا كتاب ينتشلك
من قاع الظلمة
الأيام تقذفك بأحمالها
وتوقع فيك الجروح
والآلام تشطرك إلى نصفين.
أليس هذا ما حدث ويحدث ونراه ماثلا للعيان، التشظي و، دعوات التشطير، والتخندق المذهبي؟!
لو تأمل الناظر في الأمر بعقل ووعي لوجد أنها الحقيقة الماثلة التي نعيشها بكل قتامتها، وهذا أيضا ما يتجلى زاهيا في مرآة المعزوفة السابعة الموسومة ب[ تأمل] ،فالتأمُّل هنا : (اسم)،الجمع : تأمُّلات،وهو مصدر تأمَّلَ، الماضي والمضارعمنه : تَأَمَّلَ يَتَأَمَّلُ (تَفَعَّلَ-يَتَفَعَّلُ)؛ أي: تَلَبَّث في الأَمْر والنَّظَر، وتَأَمَّلَ الشَّيْءَ: تَدَبَّرَه وأَعَادَ النَّظَر فيه مرة بَعْد أخرى لِيَسْتَيْقِنَهُ.
وهو أيضا: التأمل هو طقس ممارسة يقوم فيها الفرد بتدريب عقله لتحفيز الوعي الداخلي، ويحصل في المقابل على فوائد معنوية وذهنية.
أما في (علوم النفس) استغراق ذهنيّ أو حالة يستسلم فيها الإنسان لما يمرّ في خاطره من معانٍ وأفكار، تفكير متعمِّق في موضوع يتطلّب تركيز الذهن والانتباه يقضي بعض أوقاته في التأمُّل.
تعكس مرآة هذه المعزوفة، تقاسيم خطوط بيانية، تكشف مناطق الخلل والاعتوار الذي أوصلنا إلى ما نحن فيه أفرادا، ومجتمعات، وشعوبا، وأمة، الأمر كما تعكس المعزوفة يكمن في غياب التأمل وعدم إعمال العقل في المنطوقات والمسموعات والمعارف والأخبار التي تضخ بكميات مهولة في زمننا الحاضر ومن قنوات ومصادر لا حصر لها، ذاك أننا أمة نشأت على التلقين، والتلقي، وتربت على ثقافات سطحية ومعارف قشورية لا أرضية معرفية صلبة تورثها المنعة وتعصمها من الانزلاق في دروب حياتنا المتخمة بالمنعرجات والمنحدرات، نعم جلنا مصابون بداء التلقف، والتقليد الأعمى ،وعدم إخضاع الأمر أيا كان لحسابات علمية عقلية ومنطقية، ولذلك لا نزال حتى اللحظة أسارى للأوهام والتضليلات، وتتحكم بنا الأكذوبات المصطنعة، والخرافات ،وتتحكم بنا الشائعات يحدث ونحن في القرن الواحد والعشرين، القرن الذي قلصت انجازاته العلمية والتقنية، محيطات الكذب والتزوير والمغالطات ،وأصبح كل شي فيه موثقا بالصوت والصورة، ليس ابتداء من نمو الخلايا الجذعية، وليس انتهاء بتجارب تكاثر النمل التي أجريت في محطة الفضاء الدولية.
إن انعدام مبدأ التأمل وتلاشيه من قاموس حياتنا، أورثنا كل هذا الظلام الذي نقبع تحت أمواجه المسدلة ،والتي بفضلها لم يعد بمقدورنا رؤية أكثر الأشياء وضوحا كذلك ال( وميض في الأفق).
إن التأمل وإعمال العقل بكل إمكانياته وقدراته الخارقة هو ما ينبغي علينا تمثله الان، فبه سنعرف أن الخطأ ليس عيبا ولا هو نهاية الدنيا، فالطريق إلى بلوغ الغايات النفيسة، والأهداف العظيمة، محفوف بالصعاب والمخاطر والتحديات، فلا بد دون الشهد من إبر النحل، وعليه فأنا وأنت وهو وهم (سنحتاج إلى العثرة
لكي تكتشف المعادن) ويجب أن نلهم ذلك للنشء والأجيال حتى لو( كنت في جنة) ناهيك عن اننا جميعا نعيش إحدى مشاهد الجحيم في دنيانا.
عليك أن تتأمل، ولن تعدم ملهما يدلك على الرقي والتطور والصمود، عليك أن تتأمل وستجد أن الدنيا حافلة بالملهمين، ملهمون ماهرون، ومن مخلوقات هينة في نظرك، وأقل منك قدرا وقيمة، تأمل ،فهناك: (ثمة نملة في الحائط
تحاول الصعود
ودجاجة على الأرض
تنبش التراب
وشجرة تواجه الريح) تأمل في مل شيء، ترى العجب ،وتصنع المعجزات، تأمل فب مرآة هذه المعزوفة لترى كم هو بطولي ونبيل سلوك وإقدام وجسارة تلك النملة وهي تحاول صعود الحائط! وكم هو شريف وعصامي سلوك تلك الدجاجة التي تنبش التراب تطعم منه نفسها وصغارها، معتمدة على نفسها وإمكانياتها دون انتظار فتات طعام أو حبيبات تمن عليها بها صبيحة كل يوم، فقط عليك علينا عليهم أن نطيل التأمل، وسنجد مددا رهيبا من طاقات روحية ومعنوية خلاقة تمكننا من الصمود كل ما مرت بنا مطبات ومزالق وكوارث، نستطيع استلهام ذلك إن نحن تأملنا بعين العقل والقلب معا، صمود (شجرة في وجه الريح) .
إن كل المرايا السابقة : جب، قعر، إبحار، أنا وزوربا، هباء، واقعة، تأمل، تجعلنا نتسائل، ونسأل: هل سيطول هذا الوضع، وتستمر هذه الحال؟ ما وضعنا، وأين نحن بالضبط؟ وما التوصيف الأنسب لما نحن والبلد عليه ؟!
ترتد إجابة سؤالنا ذلك سريعا منعكسة من واجهة عنوان المرآة الثامنة المعنونة ب[ مخاض]، ما نحن فيه ليس إلا مخاضا عسيرا، لا ولن يطول، وما نعيشه من ألم وموجعات، ليست سوى تداعيات ذلك المخاض، وممهدات الطلق لولادة واقع وجيل وحياة حقيقية واقعية أكثر جمالا وسكينة وتسامحا ورقيا وتطورا وتقدما، في شتى مجالات حياتنا المختلفة،
هذه هي الرؤية التي قدمها الشاعر، وهذه هي ال[حقيقة ] كما تعكسها جلية، لوحة المرآة التاسعة، والأخيرة [حقيقة ]:
(صرت ناضجًا وصالحًا
للأكل ).
نعم، لقد أعيانا كما أعيا الشاعر ،ذلك البقاء النمطي الرتيب :
(أدور حول نفسي
في العدم المحدق
أبحث عن ثغرة ) .
ما عشناه وعايشناه كله على قسوته وآلامه، هو مخاض ولادة فجر جديد، ولما لا يكون كذلك؟
إن فترة حمل الإنسان أقدس وأكرم المخلوقات وأكثرها تعقيدا وغموضا وإعجازا، هي تسعة أشهر، في الحساب الرياضي، وفترة الحمل التي دخلت فيها البلاد هي الان في عامها السابع فقد تلد فيه، أو تتأخر عامين،حسب افتراض تأويلي نسقطه على النص، في حين أن فترة الحمل التي بدأت بإلقائنا في الجب ولم تنته بمرحلة المخاض التي نعيشها، كما تعكسها مرايا الفجر هي تسع مرايا .
لقد كشفت القراءة، عن ملكة شعرية أصيلة، مسمونة بالعمق والنضج، ومتميزة ليس في طرائقها وأسلوبها الشعري، بل في التقاط التفاصيل بدقة واحساس متناهيين، ناهيك عن الاحتراف الشعري الماثل في تمثل مواصفات الشعرية التعبيرية العليا بفنية عالية، والاختزال المكثف للأفكار والدلالات التي لا تحد تشظياتتا.
لقد قادنا الوقف متأملين في عناوين مرايا المعزوفات التسع إلى ما يدعم يقننا بأن التجربة الشعرية المتميزة والعابرة للحدود والأزمان، هي تلك التي يجد فيها الكل الإنساني نفسه، فيحسها معبرة عنه، صادحة باسمه،صارخة،بهمومه وقضاياه، ومعاناته وأحلامه وتطلعاته، وعليه فليس مرايا (جب وقعر) سوى معادل موضوعي لحال البلد والشعب،والأزمة المعاشة بكل تعقيداتها،كما أن مرايا ( إبحار) ليست إلا معادلا موضوعيا لما للمثقفين والأدباء والمفكرين، وماينبغي أن يقوموا به من إعادة قراءة للماضي،بكل تفاصيله،بغية تصحيحه،أما ( انا وزوربا) فتمثل المعادل الموضوعي للفكر العفوي الحر المستقل من كل الولاءات الضيقة، والذي لا ينتمي إلى الإنسانية، ولا يمايز بينها بالإحسان والإساءة، ذاك زوربا، أما أنا الشاعر فمعادل موصوعي لعامة الناس البسطاء ومنطقهم المتضرر الأول والأكثر توجعا ،وهو ذاته الأكثر تغييبا عن الساحة ،ومراكز صنع القرار، والحال هذه في مرايا ( واقعة، ومخاض، وتأمل، وحقيقة) فكلها جاءت محملة بمعادل موضوعي لصيق ومعاش في الواقع الراهن
تلك هي خلاصة ما عكسته المرايا من الوهج الوضاء،وهو عبر عنه شاعرنا القدير بقوله :
الآن اتضحت الحقيقة،
هذا ما قاله الضوء.