هل سألتَ نفسَك يوماً ماذا لو لم أكن قادراً على الشعور بالألم، أو لم أستطع البكاء والصراخ تعبيراً عنه؟ هل فكَّرت يوماً فيما لو كان طفلك لا يبكي عندما يشعر بالألم أو يُصيبه مكروه؟ كيف ستُسرع لنجدته؟ كيف ستفهم ما يؤلمه؟
أجل.. تتذمر الكثير من الأسر من بكاء وصراخ الأبناء على كل صغيرة وكبيرة، ولكنه يكون بمثابة جرس إنذار للأهل عند حدوث ضرر للطفل، فيهرولون لنجدته ومعرفة ما أصابه، وجميعنا نعلم أن هذا أمر بشري فطري يوجد لدى الجميع، لم نتخيل قط ماذا قد يحدث إذا لم نشعر بالألم، أو إذا كنت تشعر به ولا تستطيع الصراخ والبكاء تعبيراً عنه، وهل يوجد أناس يعانون من عدم البكاء عند الألم؟ هل تفكَّرت في ذلك قط؟ الشعور بالألم والصراخ تعبيراً عنه نعمة كبيرة قد يُحرم منها بعض الناس، ويعيشون حياة محفوفة بالمخاطر؛ لأنهم لا يشعرون بالألم حتى لو أصيبوا إصابةً خطيرةً، وهؤلاء هم من أُصيبوا باضطراب CIPA، فما سببه، وما علاماته وأعراضه، وهل يمكن علاجه، وكيف نتعامل مع الطفل المصاب به؟
ما هو اضطراب CIPA؟
“سيبا” هو اضطراب وراثي صبغي ذاتي متنحٍّ نادر، يصيب طفلاً من بين كل مليون طفل، ويصيب الجهاز العصبي، ويمنع الشعور بالألم، حتى آلام الجوع، ورغبته في قضاء حاجته، ويمنع أيضاً الشعور بدرجة الحرارة، سواء الباردة أو الحارّة، ويمنع الشخص المصاب به من التعرق، وهو اختصار للمصطلح (Congenital İnsensitivity to
pain with anhidrosis)
كيف يصاب به الطفل؟
يصاب الطفل باضطراب CIPA بسبب طفرة جينية تمنع تكوين خلايا عصبية مسؤولة عن نقل إشارات الألم والحرارة والبرودة إلى الدماغ، حيث ينتج عن طفرة في NTRK1، وهو جين يرمز لمستقبلات كيناز التيروزين العصبية، وهو مستقبل لعامل نمو الأعصاب NGF، وهذا البروتين يحفّز نمو المحاور والأغصان، ويعزز بقاء الخلايا العصبية الجنينية الحسية والودية، ولا تسمح الطفرة في NTRK1 بربط NGF بشكل صحيح، ما يتسبب في حدوث عيوب في تطور ووظيفة المستقبِل المستشعر للألم. كما عثر على تشوهات الميتوكوندريا في خلايا العضلات للأشخاص الذين يعانون من CIPA، وتظهر خزعات الجلد نقصاً في تثبيط الغدد العرقية المفرزة، والألياف المايلينية الصغيرة والخالية من المايلين.
والخلاصة: فسبب الإصابة به يرجع إلى الاعتلال العصبي، والذي يُحدث خللاً يتسبب في حدوث فشل في تطور الجهاز العصبي الحساس بالألم، أو يرجع لسبب عدم الحساسية الخلقية للألم، والتي يتطور فيها الجهاز العصبي الحساس بالألم، لكنه لا يعمل لعوامل وراثية.
وطبقاً لإحدى الدراسات العلمية فإن هناك طفرتين تتسببان في حالة عدم الحساسية الخلقية للألم، إحداهما توقف الجينات عن توليد إشارات الألم، والأخرى تحافظ على الخلايا العصبية في حالة الراحة.
ما علاماته وأعراضه، ومتى تبدأ في الظهور؟
تظهر علامات CIPA منذ الطفولة؛ حيث إن معظم المصابين به تحت سن الـ18 عاماً، وتظهر من خلال أعراض محددة، منها إصابة الطفل بنوبات مرتبطة بارتفاع الحرارة (حمَّى متكررة)؛ نتيجة غياب القدرة على التعرُّق (احتباس التعرق)، فالطفل غير قادر على تنظيم درجة حرارة الجسم، وغير قادر على الشعور بالألم أو درجة الحرارة، لكنه يحتفظ بالقدرة على الشعور باللمس، وغالباً ما يكون الطفل مصاباً بالإعاقة العقلية.
خَطرُه على الأطفال
عدم الشعور بالألم يُعرّض الطفل المصاب لخطر كبير، وقد يؤذي نفسه عن طريق الخطأ، ويحدث تقرح القرنية لعدم وجود نبضات واقية.
ويعاني الطفل المصاب أيضاً من مشاكل بالعظام والمفاصل بسبب الإصابات المتكررة التي يتعرض لها، وتشفى جروحه لكن بشكل ضعيف.
يصعب على الطفل التدرب على استخدام دورات المياه؛ لأنهم لا يشعرون بالرغبة في قضاء حاجتهم، ما يدفعهم إلى ضبط مؤقت يذكرهم بقضاء حاجتهم بين الحين والآخر، وكذلك الأمر بالنسبة للطعام؛ حيث إنهم لا يشعرون بآلام الجوع.
لا يستطيع الطفل الشعور بدرجة الحرارة، حتى إن بعضهم مات بسبب ضربة شمس، ويجب الحفاظ على درجة حرارة الجسم معتدلةً طوال الوقت، وخاصةً خارج المنزل، وذلك تجنُّباً لارتفاعها، الذي يؤدي إلى اختلال التعرق في الجسد، وبالتالي يُفضّل أن يقيم الأهالي في بيوت ذات مناخ بارد لتجنب تلك المشكلة.
وقد يمضغ بعض الأطفال شِفاههم وألسنتهم وأصابعهم إلى حد سَيَلان الدم، وقد يفقدون أظافرهم أو أصابعهم؛ لأن حالتهم تدفعهم لذلك، ما قد يستدعي إزالة كافة أسنان الطفل حتى لا يقضم عضواً آخر في جسده، ولا يخافون من بعض مواطن الخطر في الحياة اليومية، مثل حقن اللقاح، والحرائق، أو حواف السكاكين الحادة، والسقوط بدلاً من الجلوس، والقفز من أماكن مرتفعة؛ ما يتسبب في كسر عظامهم دون أن يلاحظوا، لعدم شعورهم بالألم، ما يتسبب في إساءة بعض الأسر لطفلها، وذلك لجهلها بحالته.
أما البالغون منهم فيعانون من إصابات شديدة في العظام، لا تلتئم بشكل صحيح؛ لأن قلة إحساسهم بالألم تُحفّزهم على ممارسة الحياة اليومية دون أي قيود أو محاذير.
كيف يتم تشخيص الطفل المصاب باضطراب CIPA؟
يتم تشخيص الطفل المصاب بـCIPA بناء على الاختبارات السريرية، ويمكن تأكيده من خلال الاختبارات الجينية، وللأسف لا يوجد علاج له حتى الآن، ويمكننا فقط الانتباه لإصابات الطفل، لمنع العدوى أو زيادة السوء والضرر الواقع خلالها.
هل المصاب بـCIPA متبلد المشاعر؟
رغم أن مصابي عدم الحساسية الخلقية للألم لا يشعرون بالألم، فإنهم يشعرون بالطرف الآخر عند المصافحة أو الأحضان، كما أنهم ليسوا متبلدي المشاعر، فهم يمتلكون مشاعر عاطفية، ويشعرون بأي شيء عند الضغط على أجسامهم.
هل فكَّرتَ يوماً في أن الشعور بالألم نعمة يفتقدها غيرك؟
يود الكثيرون التخلص من الشعور بالألم من حياتهم، سواء مواقف صحية أو نفسية، ولكن قد يكون الشعور بالألم نعمة كبيرة وأنت لا تدرك قيمته، حيث يُنبّهنا لوجود الخطر، وأن نحذر ونأخذ التدابير اللازمة، ومن بعدها نتذوق شعور العافية وزوال الألم، فندرك قيمة الحياة والعافية من جديد، وفي حالة الطفل المصاب بـCIPA، فهي تخلصه من الشعور بالألم، حتى إن بعضهم يخضع لجراحات دون الحاجه إلى المورفين، ولكنها تسلبه القدرة على الإحساس بالألم، الذي يُنبههم في حالة التعرض لإصابة خطيرة، وقد تؤدي إلى فقد حياته في سن مبكرة، بسبب عدم الشعور بالألم أو الحرارة.
في النهاية.. الشعور بالألم نعمة عظيمة لا ندركها، وعلى الوالدين الانتباه لأطفالهم، خاصة في المراحل العمرية الأولى حتى يتخطاها الطفل بسلام، وعدم الصراخ أو عقاب الطفل لأنه جرح نفسه أو آذاها، دون أن تفهم وتسأل عن سبب ما حدث، علَّه لا يشعر بالألم مثلك، فتسارع بالتدخل المبكر وتنقذه، كما يمكننا القول إن الشعور بالألم يُعلمنا السلوك السليم للحفاظ على حياتنا والعيش لعمر أطول، وهذا ما يفتقده المصابون بعدم الحساسية الخلقية للألم، فعُدّ نعم الله عليك، واحمَدْه إن كنت مُعافًى، وأساله العافية لغيرك، ودمتم سالمين.