أنهيت اليوم قراءة ” الدين والظمأ الأنطلوجي ” ؛ وصفة أعدها طبيب روحي للأرواح الحائرة والأنفس العطشى .
عبد الجبار الرفاعي ذلك التلميذ النجيب لابن عربي والرومي والحلاج في مسارات الروح والقلب ، والتلميذ النجيب للتراث ورموزه في مسارات الاعتقاد والشرع ، ثم هو التلميذ النجيب لتراث الفكر الإنساني الممتد في العلم والفلسفة والعقل .
يعقد الكتاب مصالحة بين العقل والقلب والجسد ، تتبدى بمصالحة بين الفلسفة والدين والعلم ، يأخذ فيها كل شيء مكانه ولايتعدى حدوده بمايلبي حاجات الإنسان متعددة الجوانب.
الكتاب سفر روحي ، ونفوذ إلى أعماق الذات، وغوص في دهاليزها، وكشف عن تراسيمها ،وبحث عن طبائعها وحاجاتها ،وفي ذات الوقت تحليل عقلاني للتراث ومقولاته وبنياته وطبقاته ودينامياته وتحولاته .
لاترى في الكتاب انفصالا بين الحروف والكاتب ، إذ ” الكاتب يكتب نفسه ” حسب تعبير الرفاعي في الكتاب ، ولعل أجمل فصول الكتاب ذلك الجزء الذي يدون المؤلفَ ،بالخوص ( سيرته وذاكرة حياته ) .
يقول المؤلف أن ماأنتج تدينه الروحي الأخلاقي الجمالي هو تدين أمه الشعبي البسيط النقي الشفيف الخالي من التعصبات والإقصاءات والعنف .
يبتغي الكتاب تقديم فهم للدين لايكرر التصورات السائدة ، الجاحدة للدين تارة أو المغالية فيه تارة أخرى .
يعمل المؤلف على التمييز بين الدين الأنطلوجي ( الروحي الأخلاقي ) ، وبين التدين الأيديولوجي السياسي .
الدين الأنطلوجي حسب الكاتب حاجة وجودية يفرضها ضعف الوجود الإنساني وفقره لمايروي ظمأه للمقدس .
أما الدين الآيدولوجي فيعمل على تمدد المقدس ليتلهم كل ماهو خارج حدوده ، ماينتج عنه تنميط الإنسان ، ونسيانه ، ومحو شخصيته ، وقتل إبداعه وتميزه وتفرده ، وسلب حريته ، وهدر كرامته ، إذ يعمل الدين حينها خارج حدوده ويتعدى وظيفته في خلق المعنى لحياة الكائن البشري وتفسير مالم تستطع الخبرة البشرية تفسيره ، وهذا بالذات مايشوه حقيقة الدين وصورة الله لتبدو وحشية عنيفة مظلمة لاتشبه صورة الرحمن في جميع الأديان !
يؤسس الكتاب حسب ماورد فيه للاهوت الحرية في مقابل لاهوت الاستلاب ، لاهوت الحب مقابل لاهوت الحرب ، لاهوت القلب مقابل لاهوت القسوة ، لاهوت الإنسان مقابل لاهوت الآيدولوجية ،ويؤسس ل”إنقاذ النزعة الإنسانية في الدين ” وهو عنوان لأحد كتبه السابقة .
أتمنى على المثقف السوري ، خصوصا من يعتني بالأديان وعلومها وفلسفاتها وتاريخها ،ويهتم بالحركات الإسلامية والإرهابية ومناشئها الفكرية ، وينشد الإجابة عن سؤال الدين ودوره في الحياة ، أن يعقد صلاته الفكرية مع مفكر لايكرر الفهم التقليدي أو السلفي للدين وتجلياته، وأن يقرأ الدكتور الرفاعي من خلال كتبه الثلاثة ” الدين والظمأ الأنطلوجي ” ” الدين والاغتراب الميتافيزيقي ” ” إنقاذ النزعة الإنسانية في الدين “.
ﺣﺴﺎﻡ ﺧﻠﻒ