قبل خمسة عشر عاماً دخلتُ عالم الإعلام، لم أكن محترفاً بالمعنى الحثيث للكلمة، فأنا لم أدرس الإعلام في كلياته أو جامعاته، بل كل ما كان في الأمر هو موهبةٌ ومهاراتٌ صقلتها عبر السنين. خلال تلك السنون تعلمت الكثير، وكل يوم كنت أتعلّم شيئاً جديداً، لكن يبدو أن ما تعلمته وحصيلة تلك السنين ليست حقيقيةً أبداً؛ حتى إنني بدأت أشك بأن ما تعلمته ويعلمونه في الجامعات والمؤسسات الإعلامية هو كاذب جداً وبأن الحقيقة وسوق العمل يختلفان قطيعاً؛ فلنمشٍ معاً خطوةً بخطوة.
1- علمونا بأنَّ الشكل وطريقة النطق هما أساسيان كي تدخل عالم الإعلام التلفزيوني والإذاعي، ولكن هذا في كثيرٍ من الأحيان غير صحيح، وغير مطلوب أصلاً، فمثلاً راقبوا معي غسان بن جدو، الرجل يلثغ بحرفين أو ثلاثة، شعر رأسه "غريب" (مزيج بين التصلع والتشعر)، نظاراته تغطيان نصف إلى ثلاثة أرباع وجهه، ومع هذا كان الرجل نجماً على واحدة من أهم القنوات الفضائية العربية أي الجزيرة، ليعود ويصبح مدير فضائيةٍ أخرى، لستُ هنا أشكك في مهارة الرجل، ولكن بنفس الوقت يكون السؤال لماذا الاهتمام إذا بالشكل طالما أنه ليس مهماً؟ وكي لا يعتقد أن بن جدو حالة فريدة يمكننا مثلا النظر إلى قناة الميادين ككل، واختيار عدد كبير من مذيعيها/مذيعاتها يجانبهم الجمال بشكلٍ كبير. نفس الأمر يطبّق على قنوات عدّة مثل المنار، الجديد والمستقبل، وصولاً حتى الجزيرة نفسها.
2- علمونا بأنَّ المهارة والموهبة والعمل الدؤوب هما الطريق للوصول إلى الحلم، لكن بسؤالٍ بسيط، كم واحدٌ منا يعرف من يعمل في الكواليس في أي من الفضائيات، أو القنوات الأرضية مثلا؟ لا أحد يهتم سوى بالمذيعة الحسناء(أو الشمطاء) ذات الفستان المزركش، هي/هو لا يفعلان الكثير سوى النطق، بينما يموت كثيرون ولا أحد يعلم عنهم، بالإضافة إلى أن القناة نفسها لا تعلم عنهم أبداً، (دون نسيان الفتات الذي يحصلون عليه).
3- علمونا بأنَّ الثقافة والمعرفة هما سلاح الإعلامي، وهذه كذبةٌ "ضاجة" وخدعةٌ كاذبة تستدعي أن يضحك الكون منا عليها. فمعظم إعلاميينا لا يعرفون مثلا عاصمة الهند أو لأجعلها أسهل أكثر، عاصمة البرازيل! وبأن بوكاهنتوس ليست نوعاً من الكاكاو وبأن اللاكروس هي لعبة فرقٍ جماعية، وتلك معلوماتٌ غير مهمة أبداً قد يعتقد البعض وقد تكون كذلك فعلاً، لكن أن لا تعرف مثلا أسماء روؤساء بلدان المنطقة في وقتٍ تعتبر نفسك صحافياً سياسياً؟ أو أن تنطق إسمهم بطريقةٍ مغلوطة، كما نطقت مرة احدى مذيعات الأخبار على احدى القنوات الشهيرة اسم وزير الخارجية المصري (آنذاك) أحمد أبو الغيط "أبو الغيظ"، وحينما أخبرها أحدهم بأن الإسم هو أبو الغيط، تضايقت وشنت حملةً شعواء على المصحح حتى طرد من عمله!
4- علمونا بأنه في النهاية لابد وأن تأخذ فرصتك، وبأن الفرصة قادمة، "لا تحزن إن الله معنا"، وبأن الديناصورات القابعة في المؤسسات سترحل وسيأخذ الشباب/الفتية مكانهم، لكن الحقيقة تختلف، الديناصورات لاتزال في أماكنها، والشباب/الفتية يفترشون المقاهي، وليس آخر دليلٍ أورده هو أنه حينما أرادت جريدة السفير أن تنتج "ملحقاً" شهرياً عن فلسطين استعانت بكل دناصرة الزمان الفلسطينيين كي يكتبوا في الملحق، ولمّا لم تجد، كون معظم قد توافاهم الله أو راقدون في المستشفيات، فعلت عين الصواب: استعانت بمقالاتٍ منشورةٍ سابقاً لنفس الكتبة الدناصرة!! وسحقاً للشباب وسحقاً للفرص، فبحسب قول أحد "الكبار" في الجريدة: ليس هناك من كتابٍ/شعراء فلسطينيين شباب!
5- علمونا بأنَّ الأدب والأخلاق هما درعٌ الإعلامي، وبأن الأمم الأخلاقُ ما بقيت، وبأنك إذا أردت النجاح استجمع كل أخلاقك واعمل، لكن التجارب تثبت يومياً العكس، عليك أن تكون لا أخلاقياً وتنتج برامجاً قائمةً بكليتها على "قلة الأدب" والكلمات البذيئة والألفاظ الملغومة تحت حجج أن المجتمع لا بد أن "يتطور"، فتزدهر شخصيات "إعلاميةٌ" لزجة مثل ماريو باسيل، وميشال أبو سليمان، وايلي متري(صاحب نظرية لا أمانع الارتباط بعاهرة)، ويصبح لها برامجها التي لا تحكي إلا نكاتاً قذرة، والجنس بشكله المباشر ودون تغليف بأبشع طرقه وأقذعها، وتفرد ساعاتُ تلفزة وحتى ليالٍ لتلك البرامج، و"يسترزق" من جراء تلك البرامج كثيرون، ويسمى كل هذا "إعلام".
6- علمونا بأن نقل الخبر حرفة، وبأن حرفة الناقل لا تكمن فقط في نقل الخبر بل في إفهام المشاهد الرسالة من وراءه، وفاتهم أن يعلمونا كما تعلّم "النيو تي في" (تلفزيون الجديد لمن فاته) مراسليها: الفذلكة و"الحربقة" واللعب على الشناكل على رأي إخوتنا المصريين ونحن نقوم بالتقرير، فتارةً نصور نفسنا بالمقلوب، وتارةً نخرج من خلف الخزانة، أو نضيء "لمبة" أو نقفز في الهواء خمس دوراتٍ متتالية ثم نهبط على اصبعين ونقول اسمنا أمام الكاميرا كي نصبح مقدمين جيدين ويحسب حسابنا ونعتبر مهمين. فتلك حرفية ما بعدها حرفية!
7- علمونا بأنّ مهنة الإعلامي مقدّسة، وبأنه حتى ولو أرادت المؤسسة التي تعمل بها أن تخون الوطن فأنت لا تخونه، تتركها ولا تهتم. لكننا اكتشفنا أنك حينما تترك عملك فيها لأنك أخلاقي سيأتي ألفٌ غيرك للعمل مكانك. وتصبح قنوات البث والتحريض والبخ الطائفي القذر جزءاً لا يتجزء من الوجبات الإعلامية اليومية، فيصبح شهداءك مضغةً في فم مذيعة حمقاء، أو محلل تافه لمجرد أنهم يختلفون معه في "السياسة"!
8- علمونا بأنَّ التفهاء والسخفاء لا أحد يهتم برأيهم ولا يسمعه، لكن الاكتشاف المر أن السخفاء والتافهون هم أساس اللعبة وهم الوحيدون الذين يهتم أحدٌ لآرائهم ويقيمها، وإلا مثلاً لماذا يترك محللٌ "سمج" مثل نديم قطيش حراً للحديث؟ بخلاف أنه "محرض"؟ أضف إلى ذلك القائمة الشاملة من المحللين الذين يخرجون يومياً علينا على كل قنوات التلفزة يتحدثون في أمورٍ لا يفقهون منها أو عنها شيئاً، وجل ما يعرفونه هو ما سمعوه من جلسةٍ في سهرةٍ حمراء أو خضراء أو ملونة!
9- علمونا بأنك إن كنت جيداً وموهوباً فإن المؤسسات الإعلامية ستتقاتل عليك، وبأن ستصبح نجمها المطلوب، لكن فاتهم بأن يقولوا لك بأن عليك أن تمثّل دور الغبي والتافه والسخيف كي لا يخاف منك مديرك في العمل أو مدير البرامج في المؤسسة أو مدير القناة نفسها، لأنه في النهاية: كيف يمكن لهذا الشخص تبرير وجود شخص بمواهبك ومهاراتك تحت إدارته هو الذي لا يمتلك شيئاً مما تملك؟
10- علمونا بأن الإعلاميين يتحرون الصدق في ما ينقلون، وبأن الخبر ينقل بحرفية بعد الإشارة مصدره، لكن الأمر برمته كان خرافة. أيُ أحدٍ ينقل أي خبرٍ منشور حتى ولو كان على حبل غسيل، فتصبح الذبابة دبابة (بحسب اعلان احدى القنوات)، وتصبح الفأرة حوتاً سيبتلع كل القارة، وحينما يعرف الخبر الحقيقي يدفع إلى الواجهة بكبش فداء، وفي العادة يكون من لا واسطة لديه هو ذلك الكبش!
11- علمونا بأن هدفنا كإعلاميين أن نساعد وأن نخدم وأن نوعّي الناس ونخبرهم بما يحدث حولهم، لا أن نستخدمهم كي نحقق أرباحاً لقناتنا من خلال أسئلة "حقيرة" ومهينة، فنسأل شخصاً يموت من السرطان، كيف شعورك وأنت تموت بالسرطان؟ أو نسأل طفلةً مات كل أهلها، "شو شعورك بعد ما بابا قطعته السيارة، وماما طار راسها وصار علبة فاضية، واخوتك اتقطعوا ايديهن وما ضل منهن شي؟
12- وأخيراً: علمونا بأن الإعلاميين الأوائل شقوا الصخر بأيديهم، ولم يهتموا أولاد من كانوا أو إخوة من، وبأنهم لشدة مهارتهم أنشأوا الشعر والأدب والثقافة على أوراق البردى، ولكننا عرفنا بالطريقة الأسوأ أنك لا تنجح إلا إذا كان أقاربك أثرياء أو واسطتك قوية كي تدخل المجال الإعلامي، وبأنه إن كان شقيقك رئيساً لتنظيمٍ سياسي سيضعك على رأس القناة التي يملكها التنظيم حتى ولو كنت تعمل في تصليح الغسالات، وبأنكِ إن كنتِ ابنةً لمدير البرامج في قناة ستصبحين مراسلة حتى ولو كنتِ لا تعرفين التمييز بين أصابع يديك من قدميك، وبأنك إن كنت ابن نائبٍ سابق يعرف الجميع والجميع يعرفه فتصبح مديراً للبرامج في مكانٍ ما فقط لأن الرجل والدك!
كل هذا لم يعلمونا إياه، كل هذا عرفناه نحن بالطريقة الأسوأ والأصعب والأوجع على القلب! تلك كانت القصة الأكثر ظلمة وقسوة، لكنها كان المعلم الأبرز. يا أحبتي يا طلاب الإعلام القادمين، يا إعلاميي المستقبل(ليس التلفاز بالتأكيد) هذه هي حال البلاد، اختاروا الطريقة التي تريدون أن تكونوا عليها، واستفيدوا من عبرة ما كتبته، لإنه الصدق، الصدقُ فحسب!