حتى وقت قريب كنت أظن أن حكام العرب يحتكرون البطولة المطلقة للنكتة السوداء التي يأكل بطلها مئة كف على غفلة. فحكامنا يجربون المجرب، ويجترون المجتر
ويبددون ما لا يبدد! لكنني اكتشفت أن بعض الحكام الأوروبيين بدؤوا مؤخراً ينافسون حكام العرب على بطولة هذه النكتة البائخة! فمنذ فرار إدوارد سنودن موظف وكالة الأمن القومي الأميركية إلى روسيا، وكشفه البرنامج السري لمراقبة الاتصالات في الولايات المتحدة. تنقل لنا وسائل الإعلام الأوروبية كل يوم عشرات المقالات والتصريحات الفجائعية عن تجسس واشنطن على المؤسسات الأوروبية والزعماء الأوروبيين! فالمفوضة الأوروبية للشؤون القضائية فيفيان ريدينجبرت تعبر عن استيائها معلنة أن «الأمن القومي ليس مبررا للسماح بأي شيء»، كما طالب رئيس البرلمان الأوروبي، مارتن شولتز، الولايات المتحدة بتقديم «توضيح كامل»!واستدعت الخارجية الألمانية السفير الأميركي المعتمد في برلين لإبلاغه رسمياً بـ«الاستياء»، وانتقدت الحكومة الفرنسية برنامج التجسس الأميركي بشدة، أما جان اسيلبورن وزير خارجية لكسمبورغ، التي يبلغ عدد سكانها نصف مليون نفر، فقد شعر «بالاشمئزاز» ووصف برنامج المراقبة الأميركي بأنه «خارج عن السيطرة»!
والمضحك المبكي في كل هذه الفرقعة الإعلامية هو أن الجميع يتصرفون كما لو أن جريمة التجسس هذه لا سابق لها على الإطلاق ولا علم للأوروبيين بها لا من بعيد ولا من قريب!ولكي تدرك أيها القارئ العزيز مدى فجاجة هذه النكتة اسمح لي أن أذكرك بأنني، أنا شخصياً، سبق لي، قبل نحو خمسة عشر عاماً، أن كتبت مقالاً بعنوان «براغيث إلكترونية، في اتصالاتنا الشخصية!» في أحد أعداد مجلة PC Magazine عن هذه الشبكة التجسسية الأميركية التي تتجسس على أوروبا وعلى العالم برمته.
وإليك مما جاء في المقال الذي كتبته قبل خمسة عشر عاماً: «أعلنت صحيفة «إلموندو» الإيطالية عن اكتشاف شبكة تجسسية، مختصة في الاستخبارات الإلكترونية، تدعى NSA، تعتبر أخطر وأوسع وأكثر سرية، من شبكة المخابرات المركزية الأميركية. وهذه الشبكة التجسسية، تتنصت على كل الاتصالات الهاتفية، التي تمر عبر الأقمار الصناعية، عن طريق البراغيث الإلكترونية. وتقول «الموندو»: إن هذه الشبكة تدار من قبل الولايات المتحدة الأميركية، بالاشتراك مع أربعة دول أنجلوفونية، هي بريطانيا، كندا، استراليا، ونيوزيلندا! وقد وصفت لجنة تقدير الخيارات التقنية والعلمية، التابعة للإدارة العامة في البرلمان الأوروبي، عمل هذه الشبكة العالمية، في تقريرها حول تقنيات المراقبة السياسية بقولها:
«إن كل الاتصالات الهاتفية والفاكس والنصوص المرسلة عبر البريد الإلكتروني، عبر أوروبا بأكملها تخضع للتنصت والمراقبة بشكل منهجي مطرد، حيث يتم جمع المعلومات ذات الأهمية من قبل المركز الإستراتيجي البريطاني «مان وذ هيل» لإرسالها إلى المقر العام في وكالة الأمن القومي(NSA) ووفقاً للتقارير فإن كل هذه الاتصالات المرمزة وغير المرمزة، تخضع للتفكيك والانتقاء، ثم الدمج في بنك معلومات مشترك بين الدول المعنية».
وتقول الجريدة الإيطالية، إن هذه الشبكة الأخطبوطية، تستطيع التنصت على كل الاتصالات العالمية التي تمر عبر الأقمار الصناعية، الثابتة في مدارات حول الكرة الأرضية. فهي تملك مجموعة من الأقمار الاصطناعية التجسسية، وضعتها وكالة الأمن القومي في المدار الفلكي منذ عام 1970. كما أنها تملك شبكة كومبيوتر نافذة تسمى (قواميس) تستطيع امتصاص ودرس وتمحيص عدد هائل من الرسائل الرقمية تصل إلى مليوني محادثة أو رسالة في الدقيقة!»
قد يبدو الأمر غير قابل للتصديق لكنها الحقيقة المرة، وأعداد المجلة التي كتبت فيها ذلك المقال، موجودة لدي وفي أرشيف المكتبة الوطنية لمن يريد التأكد! نعم لقد سبق لي قبل خمسة عشر عاماً أن كتبت عن شبكة (NSA) التجسسية، ولا شك أن الأوروبيين كانوا يعرفون قبل ذلك التاريخ وبعده بأن أميركا تتجسس عليهم وعلى العالم برمته، فما الذي عدا ما بدا كي يستيقظوا من (غفلتهم) الآن؟
في عددها الصادر أمس تساءلت نوفيلوبزرفاتور هل يمكن للعالم أن يستغني عن القيادة الأميركية له؟ وترجمة هذا السؤال: هل بدأت الفئران تستعد للرقص فوق جثة الفيل الأميركي الذي يحتضر؟