ليس من اليسير أن يصبح الإنسان كائناً تكفيرياً، لأنه حين يصل لتلك المرحلة من الانحدار القِيمي، يصبح تحوله لأداة قتلٍ أمر طبيعي، وبالتالي أداة طيعية في يد صاحب كل مشروع وأي مشروع، المهم أن تكون طلائع المشروع لحىً مهملة وشوارب محفوفة، لذلك فإن عمليات إنتاج الكائنات التكفيرية تقوم عليها دولٌ بموازناتها واستخباراتها ،ومجامعها الفقهية وقنواتها الفضائية، وأظنه الذهبي الذي قال" لعن الله الذكاء مع الكفر ورضي الله عن البلادة مع الإيمان"،وبغض النظر عن مناسبة هذا القول للذهبي وظروفه، فقد أصبح اليوم كأنه قاعدة منطقية فحواها، أن كل من أعمل عقله فهو بالضرورة كافر،وأن كل من تبلدت أفكاره فهو بالضرورة مؤمن،رغم أن هذا ما لم يقصده القائل.
وأولى الخطوات المتبعة في الطريقة المثلى لصناعة كائن تكفيري، هي تضخيم الذات لديه لدرجة مادون الانفجار ومافوق استيعاب فقاعة أخرى، فيصبح على يقين راسخ أن الجنة ما خُلقت لسواه،وأن النار لكل من عاداه وعداه، ثم تبدأ عملية الحقن بالتعصب للفصيلة والنوع،وهذه الفصيلة هي الفرقة الناجية، وفي إطارها يتم التنافس على درجات الجنة بين أفرادها، وكل ما خلا فصيلته هم حصبٌ لجهنم، وعليه تصبح استباحة الآخر في حياته وماله وعرضه طريق لمرضاة الله،وكأن هذا الآخر – على افتراض أنه كافر- فقد كفر وعاش وتنعم رغماً عن إرادة الله ، لذلك وجب الاقتصاص منه نيابة عن الله،وهذا أقصى حد من الممكن أن يصل إليه الكائن التكفيري من زهوٍ بالنفس،حيث يتلبسه الظن بأنه أصبح يد الله الباطشة التي يستلها على أعدائه فيُقيم إرادته في ملكه.
ثم تبدأ عملية تهيئة العقل للتعايش مع المتناقضات دون تعارض أو اصطدام طالما أن الملتحي قال،وهذا الملتحي يعتمد على تكفير الآخر وتجريمه لا على دحض فكرته باليقين على إعتبار أن أفكاره مجرد ضلالات، وهؤلاء الملتحون الذين أصطلح على تسميتهم بالسلفيين،أراحوا أنفسهم وأراحوا مريديهم من عناء مواجهة الحجة بالحجة والمنطق بالمنطق فصنفوا خلق الله إلى زائغين زيغ كفر،وزائغين زيغ ضلالة وبدعة وفسق،وقلما تنجو فرقة مسلمة من هذا التصنيف، وعليه فإن الكافر أو الفاسق حتماً سيأتي بلحن القول ليضلوا عباد الله المخلصين من أمثالهم، فيصبح حديثك كالهمس على سطح صخرة صماء،وإن سألته مثلاً عن القاعدة الشرعية للتعاون مع اليهود والصليبيين في عقد راية (الجهاد) في سوريا،تسمع عجاباً عن توافق ذلك مع السنة المطهرة،ومعاهدة النبي عليه وآله الصلاة والسلام مع يهود المدينة، في استعماءٍ مقزز عن الظروف التاريخية وعن الحاضر بل عن الاسلام نفسه، وإن سألتهم عن سر الاستنكاف عن الجهاد في فلسطين، تلمس تطوراً بعد انشراخ اسطوانة الطريق إلى القدس تمر عبر كل العواصم من كابول إلى بغداد إلى دمشق، فأصبح الحكم الفقهي أن فلسطين لم يُعقد لها راية،حيث أنه لا جهاد بلا أمير، ولا أمير أعلن الجهاد في فلسطين، ولكن الأمراء من الظواهري للبغدادي للجولاني والزرقاوي من قبل أصحاب الراية قد عقدوها في تلك العواصم.
ولا يؤخذ بعين الاعتبار في خطوط انتاج التكفيريين درجاتهم العلمية، فقد تجد طبيباً لا يختلف نهائياً عن شخص لا يملك من الشهادات إلا شهادة ميلاده، وقد يكون هذا الشخص الحائز على شهادة ميلاده بدرجة امتياز حيث أنه من نطفةٍ لأبوين سنيين، أميراً على ذلك الطبيب الحائز على شهادته العلمية بدرجة جيد جداً، لأن كلاهما اشترك في النهل من نفس المعين، تضخيم الذات وتفخيم النوع وتقديس لحية الأمير وتهيئة العقل للتعايش مع المتناقضات، فعندما أطلق النبي صفة الجاهلية على مجتمع ما قبل الإسلام، لم يكن المقصود به جاهلية العلم، فقد كانوا فطاحلة الشعر والفصاحة، وإنما جاهلية الوجود وقيمته ورسالته، وهؤلاء اليوم يجهلون رسالة وجودهم، فقناعة هؤلاء أن مُلك الله قد تلوث بالكفار، فأخذوا على عاتقهم تنقية هذا الملك من علاته، لتصفوا لهم الدنيا كما هي الآخرة صافية لهم ومحسومة.
إن القبضة الحديدية للاستعمار، والتي تُطبق على رقابنا لتمنع عنا أكسجين المستقبل وهواء التحرر والانعتاق، قد لبست قفازاً من كثّ اللحى، فهذه الكائنات لا تحيا ولا تتحرك بدون أوامر الأمير، ولا تبحث أو ليست مدربة عن البحث على رتبة هذا الأمير في جهاز الموساد أو السي آي إيه أو غيرها من أجهزة المخابرات العالمية، وعليه فإن استهداف هذه الجماعات سلماً أو حرباً هو أحد الأولويات الملحة على جدول أعمال المؤمنين والمخلصين في هذه الأمة.