الأفارقة الذين مشوا وراء جنازته راقصين بجنوب أفريقيا، ترى ماذا يعتقدون اليوم.؟ .. هل أرسلوا نيلسون مانديلاّ إلى الجنّة.؟ كما أعتقده المصريون قبلهم بيوم وهم يمشون خلف نعشٍ ليواروه الثّرى في (الحسين) بأنهم أرسلوه (سفير الفقراء) الشاعر أحمد فؤاد نجم إلى الجنة..!
مانديلا وأحمد فؤاد إبن التسعين والثمانين على التوالي أحبّهما معاً من هو دون الخمسين، لأني وجدت فيهما معاً ما كنت أبحث عنهما في ذاتي (الفقر والشجاعة)، ولدت فقيراً بالميرات ورثت الشجاعة بالفطرة، ثم وما أن إصطلب عودي الا وأدركت أن الفقير فقير النفس والغني غنىّ النفس، وأن لا ألذّ من كلمة حقٍّ تقولها في وجه الظالم في حق المظلوم.
(أحمد فؤاد نجم) سيُنسى سريعاً في نزاع القوم، بسبب ليس هو المنادى في نداءات أم كلثوم (يافؤادي) وحسب، بل ولا بسبب النجم الذي أقسمت به السماء (والنجم إذا هوى)، فهل يجوز السؤال أين قبره.؟ وهل يجوز أن نزور قبره.؟ ونترحم عليه؟ دون أن نعرف كيف كان يصليّ؟ وفي أى مسجد كان يصلّي؟! ..
ثم أهو في نعيم الجنة الآن أم في قعر الجحيم؟ ..
هذا ما سيُشغل قومي.!
فلا تشغلوا بوابة القوم كثيراً بالتحقق عن جنازةٍ في جوهانسبرغ أهى في طريقها إلى الجنة او النار؟ خاصةً وكل بوّاباتنا مشغولةُ بإرسال الإنتحاريين الشهداء المؤمنين إلى الجنان، مقابل إرسال القتلى الكفرة المنحرفين إلى الجحيم من مقديشوا لصنعاء، من بغداد لدمشق، من بنغازي لطرابلس ومن القاهرة لسيناء.!
إتركوا القوم وعلينا بنعشِ جنوب أفريقيا، الرجل الذي كان مات عنه والده بمرض (الرئة) وهو إبن الثامنة، مات وهو إبن الخامسة والتسعين اليوم أيضاً (بالرئة)
أعجتني في الأسود الميت مقولة الأسود الحي، إذ كان الرجل الأسود من البيت الأبيض أول من نعى قائلاً: (انا باراك أوباما، واحد من الملايين السود الذين ألهمتهم الحياة نيلسون مانديلا)، ثم أعجبتني مقولة الرجل الأبيض رقم واحد من عاصمة البيض: كاميرون من بريطانيا: (مانديلا كان ضوءاً باهراً إنطفأ.!)
الرجل الذي قضى في الزنزانة 27 عاما ليُخرج قومه من زنزانة العمر، السجين الذي حطّم عضلاته في المحاجر ليرفع عن أعناق قومه أحجار العبودية، الرئيس الذي عفى عن أعدائه الضعفاء من موقع القوّة، والإمبراطور الذي تخلّى عن العرش بعد خمس سنوات عائداً لكوخه في تقاعد طوعي، مكتفياً بكرسىِّ الرئاسة بين 1994 الى 1999، تاركاً ميدان التحدّي لغيره الأصفر فالأكفأ.!
هوليوود جنوب أفريقيا بطله اليوم هو ذلك (الزنجي العجوز!) الذي إختفى عن الأضواء وهو في أوج من الشهرة والبهرجة! ولم يعد يُرى في الأضواء منذ عام 2009 الا مرة واحدة في ساحة مباريات كأس العالم لكرة القدم التي أقيمت في مسقط رأسه عام 2010، ولم يعد يُسمع عنه وعن ثرواته ونشاطاته الا في حدود الحالات الإنسانية منها عزمه مكافحة مرض الإيدز الأكثر إنتشاراً بين الفقراء في جنوب أفريقيا، ونيله جائزة نوبل السلام عام 1993 في إقليم تمنح فيها الجوائز للعصابات والمافيات مهرة الجرائم من قطاع الطرق وتجّار الأعضاء البشرية.!
يجب أن نعترف أن إنسان الميت بإنسانية في إقليم ما، ينكد الحياة بإلإنسان الحي في كل الأقاليم إن كان حيّاً بإنسانية يقظة، لا أعتقد الأفارقة سياخذون من قبر مانديلا مزاراً يعبدوه ويقدّسوه كما عملوه لماوتسي تونغ ولينين .. وإن إفترضنا مزاراً مقدسا للزاور المانديليين في جنوب أفريقيا من الغد، فنحن نظلم بهكذا إفتراض أن نحمّلهم أخطاء كل القبور التي قُدّست وعُبدت في هذه الدنيا.!
لا تحمّلوا الرئيس زوما عن الفعاليات التأبينية التي حددها لزعيمهم الراحل من الصلاة والتأمّل والقداسات في مدرج يقال أنه يتسع ل95 الف شخص في جوهانسبورغ، وانه سيُسجّى جسد مانديلا من الأربعاء الى الجمعة في العاصمة بريتوريا لإقامة الجنازة في قرية قونو التي نشأ فيها مانديلا.
طقوس معروفة ومقبولة في كل الديانات، إلا أنني أعتقد أن روح مانديلا تسعده تراتيل أطفال الفقراء أكثر من طبول وزغاريد الأغنياء، أعتقده إستمع جيّداً لتلاميذ أطفال ريفيون فقراء وقفوا له حداداً في باكستان والهند وبنغلاديش ونيبال والصومال وأندونيسيا بنفس السعادة والشغف لأصوات ذويه بمدينتى جوهانسبرغ وسويتو، والرؤساء في العواصم الكُبرى، وأنه إن دُفن في قرية (كونو) في كيب الشرقية حيث نشأ فيها، فإنه من الحكمة المأمولة من شعب روّضه النضال المانديلي الطويل، ان لا ييأسوا من يوم جنوب أفريقي بلا مانديلا، ولا من مدينة جنوب أفريقية بلا مانديلا.
ليس لأنه لم يمت، بل مات وتحللت عضامه في التراب لحد الآن .. وإنما روحه ستبقى في الفضاء تلوح لهم في طائرة بلا طيّار ليس لقصف الأرواح اليقظة، وإنما لإيقاظ النائمة منها بأجراس أن الزنزانة التي إنحبس فيها جسدي 27 سنة لم تكن أوسع من لحد دفنتموني فيه اليوم..!
الا أنني كنت وضعت فكري يومذاك خارج الزنزانة وأسوارها وقضبانها.!
فما عليكم اليوم، الا أن تتركوا مانديلا جثمانا مدفونا نسياً منسيّاً.!
وتؤمنوا به فكراً انه سيبقى يحوم فوق رؤوسكم في طائرة بلا طيارة.!
وقودها أنتم.!
طاقمها أنتم.!
قبطانها أنتم.!
وركّابها جيل بعد جيل.!