—
سوريا.. حرب كونيّة بلا حدود
ميشيل ريمبو
ترجمة: علي إبراهيم
منذ أكثر من عقدٍ من الزمان، ألهمت الحرب الطاحنة التي تعصف بسوريا، والتي تسبّبت باستشهاد أهلها، فيضاناتٍ من الكتابات وسيولاً من الخُطب. لقد أشعلت الحروف والكلمات النفوس دون أن تنير أدمغة نخبنا المفكرة سريعة الاشتعال من أجل أقلّ القضايا يقينيةً.
خلال هذه الفترة الطويلة، كان رعايا دولنا “الديمقراطية الكبرى” على موعدٍ من أجل الحصول على غسيل دماغٍ مناسب (مزدوج)، أي الطَرْق المتواصل وقانون الصمت. لقد سمعنا مرّاتٍ لا تحصى تكرار القصّة الرسمية المعروفة للحروب في سوريا، وهي قصّة تمّ ترسيخها في جميع وسائل الإعلام الرسمية السائدة المكتوبة والمسموعة والمرئية، بين الغالبية العظمى من المثقفين والدوائر العليا للسياسيين والدبلوماسيين في فرنسا وفي كل مكان في أوروبا والغرب. التفصيل الذي قتل أو يجب أن يقتل، المبشّرين والمروّجين والمنادين علنًا بهذه العقيدة (هكذا تسمى القصة المذكورة لتكون أنيقة) أنهم كانوا مخطئين على طول الخطّ، لكنّهم ثابروا بعنادٍ ومهروا توقيعهم… الأمر الذي لم يتسبّب لهم بأيّ إحراج، لأنه لا يتعيّن عليهم أبدًا، وهذا سرّ نجاحهم حتّى، تقديم دليلٍ لتبرير رسائلهم، وهو أمر جيّد لراحة بالهم الفكرية.
كان من حقّ الرعايا المعنيّين، الذين تمّ تلقينهم الرواية الرسمية، الحصول على العلاج من قانون الصمت الذي يحيّد جذريًّا أولئك الذين يشككون في تلك الرواية.
في ظلّ هذه الظروف، كان على المعترضين الذين تعهّدوا بتفكيك هذه العقيدة نقطة تلو الأخرى اللجوء إلى الإعلام البديل. وعندما يحدث للبعض، بشكلٍ نادر جدًّا وعن طريق الخطأ، أن يجد نفسه مدعوًّا إلى وسائل الإعلام الرسمية، فإنه يكون بمثابة أضحوكة أثناء المداخلات ذات اللون الواحد. تثبت التجربة أنّ هذا العمل الدؤوب لتفكيك الحقيقة الرسمية مرهق، بل إنه يجعل المرء يقع في الفخّ الذي وصفه سابقًا كارل روف، مستشار المحافظين الجدد لجورج بوش الابن، للصحفي الأميركيّ، رون سوسكيند، الذي يتذكّر الحكاية في عام 2004 في نيويورك تايمز. عندما سئل صديقنا كارل عن فائدة “تحليلات الواقع الملحوظ”، أجاب بازدراء: “لم تعد هذه هي الطريقة التي يعمل بها العالم حقًّا. نحن الآن إمبراطورية، وعندما نتصرّف، نخلق واقعنا الخاص. وفي الوقت الذي تدرس فيه هذا الواقع، بشكلٍ صائب، كما يحلو لك، نكون نحن قد تصرّفنا مرّةً أخرى وخلقنا حقائق جديدة أخرى، يمكنك دراستها هي أيضًا، وهذا هو الحال الذي تسير عليه الأمور. نحن الفاعلون في التاريخ. […] وأنتم، أنتم جميعًا، كلّ ما عليكم فعله هو دراسة ما نقوم به”. والصحيح أنّ ممارسة التفكيك محكوم عليها بالفشل. ففي الوقت الذي يستغرقه دحض هذه “القصّة” أو تلك، يكون قد تمّ إنتاج حوالى خمسين قصّة أخرى ونشرها على الإنترنت.
بالطبع، يمكننا الاستمرار، ومن الصعب عدم القيام بذلك، بشجب جرائم الحرب والجرائم ضدّ الإنسانية وتدابير الإبادة الجماعيّة ومحاولة القتل السياسي (تدمير الدولة) والإبادة العرقية (تدمير الناس في مجتمعهم وذاكرتهم، ثقافتهم وشخصيتهم وكرامتهم وتطلّعاتهم) أي باختصار شجب كل ما يقع في إطار عدوانٍ جماعيّ على سوريا الشرعيّة كجريمة دوليّة بامتياز. ما الفائدة من ذلك ؟ كما أنّه من المغري التذكير مرارًا وتكرارًا بالدمار والجرائم والانتهاكات والأفعال السيّئة والنهب والسرقات وما إلى ذلك التي يتحمّلها الغزاة والمتواطئون معهم، أو نتائج العقوبات أو الحصار أو الحظر. ألم تُفرض إجراءاتٍ قسريّة ساديّة لا حصر لها، منذ عام 2011، من جميع الأنواع بوتيرةٍ محمومة، على شكل سلسلةٍ كاملة، من قبل بيروقراطيين مهووسين ومتعصّبين، أصابهم السُّعار بالمعنى الحرفيّ بسبب عدم قدرتهم على فرض تغيير النظام، والاستسلام غير المشروط و تأديب سوريا؟ في الواقع، فإنّ التأمّل المتكرّر والمضجر في هذا الأمر له مزاياه، لأنّه يقود إلى إدراك أنّ سوريا الصامدة تستحقّ أكثر بكثير من النّواح اللانهائيّ. إنّ من حقّها علينا احترامها ودعمها سياسيًّا ومعنويًّا والتضامن معها. وهو أمر يمكن البناء عليه بلا حدود.
بمساعدة حلفائها، قاومت سوريا عسكريًّا وأخلاقيًّا، وفرضت احترام مواعيدها الدستوريّة (الأمر الذي يشكّل في حدّ ذاته نجاحًا سياسيًّا)، فرضت على الجميع احترامها. نقطة انتهى. والكثير من رؤساء الدول يحسدون في أعماقهم نظيرهم السوريّ بالتأكيد. في الواقع، في دمشق- هذه الحالة الذهنيّة جديدة إلى حدّ ما- يفسحون في المجال أمام نوعٍ من التفاؤل يتطابق، بالتأكيد مع الفخر بمقارعة الشدائد والخصوم. خصوصًا وأنّه هنا وهناك في العالم الواسع، تميل العديد من المؤشّرات إلى إظهار أنّ هنالك وعيًا لسداد الموقف الواثق والعزم الذي يتبنّاه القادة السوريّون أكثر من أيّ وقتٍ مضى، على الرغم من ثقل العبء والعوائق التي يفرضها “محور الخير” اللعين. ألا يعادل هذا الواقع الجديد كلّ ما في العالم من تملّقٍ وكلّ المراوغات الفكريّة الشرّيرة؟ لسوء الحظّ، في فرنسا الرسمية، المهمشّة وغير المرئية وغير المسموعة، توقّف الزمن: إنّه حظر التجوّل المفروض على عصور تنويرنا، تأديب كلّ ما يتحرّك ويسير. كلّ شيء يحدث كما لو أنّ جنون الكورونا قد أصبح أفضل من أيّ… عقلانيّة. إنّ التغطية الإعلاميّة للقضيّة السوريّة ومعالجتها يدفعان إلى حدٍّ كبير ثمن تجميد العقول والضمائر هذا.
وبالتالي، في الغرب، في فرنسا على وجه الخصوص، نتمسّك بالمقاربة المعتادة التي نتّبعها في النزاعات والأزمات: نحبّ التعامل معها على أساس كلّ حالة على حدة، ونكره تبنّي مقاربة عالميّة: رجاءً لا “تخلطوا كلّ شيء”، هو الأمر القضائيّ الذي يشكّل أحد الأسلحة المطلقة لفرسان العقيدة ومراقبي قانون الصمت، في وجه المعترضين. الأمر نفسه في الصراع السوريّ، الذي يمكن اعتباره كلّ شيء ما عدا اعتباره مأساة منعزلة، إنّه مثال على التعقيد الذي لا يذوب في بساطة العقل.
عندما يصادف المرء هؤلاء المدافعين الشجعان عن الاستقامة الساذجة بشكلٍ مخادع، يأخذ “النقاش” منعطفًا سرياليًّا بسرعة. الركيزة الجيوسياسيّة؟ لا أعرف. أهداف الهيمنة؟ تمّ تجاوزها. الدوافع الخفيّة، التدخّل المنهجيّ؟ منسيّة. خطط لزعزعة الاستقرار، التقسيم ، التفكّك؟ إنّها اختراعات أنصار نظرية “المؤامرة” الاتّهام الذي يعتبر سلاحًا مطلقًا آخر يفترض أن يقضي على الخصم الوقح.
لذلك يجب أن نتجاهل السياق الإقليميّ والعالميّ المقلق بأيّ ثمن، وأن نتجنّب بعناية أيّة رؤية شاملة للمشهد. يجب التعامل مع أيّة قضيّة بشكل منفصل (كما هو الحال بالنسبة للبنان) إلّا إذا كان من المفضّل تجاهلها تمامًا (كما يحدث غالبًا في الحرب الوحشيّة في سوريا، التي تمّ ربحها بشكلٍ أو بآخر عسكريًّا من قبل دمشق وحلفائها). لا يزال الغرب دائمًا وحيدًا في العالم. هو العالم بمفرده. كيف يمكن له أن يتخيّل، حتّى في أسوأ الكوابيس، أنّ المزيد والمزيد من الناس في جميع أنحاء الكوكب (90٪ من البشر) يقولون بصوتٍ خافت (أو بصوت عالٍ) إنّه ليس وحيدًا فقط، لكنّه عارٍ.
من الواضح أنّه في خضم الأحداث الجارية، لا يمكن للمرء أن يفهم ويحلّل (بشكلٍ أجوف أو نافر) الصراعات المتعدّدة دون وضعها في إطارها الجيوسياسيّ العالميّ.
الحرب السوريّة، التي دخلت عامها الحادي عشر، ليست حربًا “أهليّة” بين سوريَّين اثنين، ولا حتّى مجرّد حرب على الإرهاب، وهو جانب أو أداة واحدة فقط من جوانب الصراع. إنّها “حرب بلا حدود”، وبالتالي حرب كونية وعالميّة، شاركت فيها حوالى 120 دولة عضو في الأمم المتحدة (“أصدقاء الشعب السوري” المشهورون)، وشارك فيها ما يقرب من 400 ألف مقاتل جهاديّ أجنبيّ من مائة دولة من القارّات الخمس. يتواجه في هذه الحرب متعدّدة الأوجه معسكران يدافعان عن مفهومين متعارضين للنظام العالميّ:
المعسكر الغربي، بدعمٍ من “إسرائيل” والقوى الإسلاميّة، يقاتل من أجل حماية هيمنته أحادية القطب، بينما احتشد تكتّل الكتلة الأوراسية بقيادةٍ روسيّة صينيّة، التي انضمّت إيران لها ودعم سوريا بقوّة، وهو يقاتل من أجل عالمٍ ثنائيّ القطب أو متعدّد الأقطاب يحترم السيادة والاستقلال.
وبالتالي، فإنّ الحرب في سوريا (يفضّل مؤلف هذه السطور أن يقول “الحروب في سوريا”) يجب أن يتمّ النظر إليها، ليس فقط في إطار الشرق الأدنى، ولكن أيضًا في سياقها العربيّ والإسلاميّ، وبالطبع في علاقتها بالحقائق والاختيارات الجيوسياسيّة.
من الواضح أنّ سياسات دول المنطقة، بأهدافها، ودبلوماسيّتها، ومناوراتها، ومخاوفها من تحوّل الأحداث، تؤثّر بشدّة على تطوّر سوريا.
لكنّ الأمر الذي لا يقلّ وضوحًا هو أنّ مستقبل سوريا يجب أن يرتبط بحكم الأمر الواقع بمستقبل هؤلاء المتحاربين والجهات الفاعلة المتعدّدة، اعتمادًا بشكل خاصّ على تحالفاتهم وخياراتهم الاستراتيجيّة وطموحاتهم ووجهات نظرهم.
لذلك، فإنّ أيّة معالجة للمسألة السورية يجب أن تأخذ في الاعتبار تصرّفات تركيا ولبنان واليمن والعراق والمملكة العربية السعودية و”إسرائيل”، وكذلك “المعسكر الأطلسيّ” و”الكتلة الأوروبيّة الآسيويّة” في الإطار العالمي للتحوّل الجيوسياسيّ الجاري: سواء أحبّ مؤيّدو الأفكار البسيطة في الشرق المعقّد أم لا، في الوضع الأكثر تعقيدًا وحسمًا. يعتمد الأمر على واقعيّة المقاربة المطلوبة لمحاولة كشف أسرار المستقبل. أمّا الاختيار بين التشاؤم أو التفاؤل، فيعتمد قبل كلّ شيء على الفكرة التي لدينا عن مصير الهيمنة الغربية: هل هي مؤكدة إلى الأبد أم أنها باتت في النزع الأخير بالفعل …
5/7/2021