نعمه العبادي
تمثل الذاكرة أحد أهم روافد تشكيل (العقل الخاص والعام)، وتحضر بشكل (نظري وعملي) في جميع المواقف والتصرفات والتوجهات والآراء، سواء كان إحضارها عن قصد أو عن غير قصد، ومع أن لها المكانة المهمة في الفكر والسلوك إلا أنها لم تنال أدنى حقوقها من الاهتمام البحثي والمعرفي خصوصاً فيما يتعلق بالذاكرة العامة إلا في حدود ضيقة ضمن اطار علم السلوك السياسي، إذ يدون التاريخ من قبل مدونيه في سرديات ثبت للأحداث، تعتمد إسلوباً قاصراً لفهم ما ورائيات الاحداث ومجرياتها، ومن المؤكد انها لا تضع الذاكرة ونزيفها في الحسبان، كما، ان المشتغلين على تحليل الواقع واستشراف المستقبل (تغيب عنهم) ماكنة الذاكرة بوصفها مشغل نشط لطيف واسع من الاحداث.
تكمن مشكلة التعاطي مع الذاكرة الجماعية في (الحسم القطعي لحقيقة صورتها الأولى، أي كيف ومتى ولماذا وقع الحدث، وأشكال تمثلها عبر الاستذكار الفردي والجماعي بعد إنقضاء لحظة حدوثها الأولى، وصلتها الواقعية بالحدث او الموقف المنظور المستجد)، ويتزايد هذا التعقيد في ظل سطوتها الصامتة التي تتحرك في حياتنا الفردية والجماعية ك (سكين شحم).
ينافح طيف واسع من العامة والخاصة عن ضرورة الترفع عن الماضي وما حواه، ويكررون عبارة (نحن أبناء اليوم)، ويحيلون اسباب تأخرنا ومشاكلنا إلى تمسكنا بالماضي او اصرارنا على حضور الماضي في حياتنا، ويطالب البعض بقطيعة تامة نهائية عن كل ما حدث.
تعد واقعة الغدير احد اهم واخطر مفردات الذاكرة الجماعية التي ينسب لها مصدر الخلاف الاكبر بين المسلمين، والذي قسمهم إلى القسمة المعهودة بين قسميهم الرئيسين، حيث تسمياتهم المختلفة (السنة/الشيعة، العامة/اتباع اهل البيت (ع)، اهل الخلاف/الروافض،…..)، إذ يصر كل من الطرفين على تفسير محدد لواقعة الغدير ومحتواها، وأما حقيقة وقوعها وما جرى فيها، فلا ينكره إلا جاحد.
يبرر دعاة القطيعة مع الماضي، رغبتهم في (إنساء) واقعة الغدير ومحتواها إلى عدة أسباب من اهمها (عدم جدوى الخوض فيها، وكونها شأن تاريخي يتعلق بجيلها، وان طرفها الرئيس وهو الامام علي عليه السلام تعايش مع الواقع الجديد اي حكم الخلفاء في زمنه، وان استذكارها او احضارها سبباً لمزيد من الخلاف والتقاطع، كما ان الاخطار والتحديات التي تستهدف المسلمين دون ان تفرق بين مذاهبهم تتطلب منهم موقفاً موحداً).
مما لا جدال فيه ان هذا الجرد من الأسباب له حظه من التبرير، كما، ان بعض هذه الاسباب تتحدث عن امور واقعية خصوصا فيما يتعلق بالاستهداف الموجه إلى عموم المسلمين إلا ان السؤال المهم: هل يمكننا تجاوز مؤدى ومضمون واقعة الغدير، وهل ان الاستذكار والحضور المعني والمطلوب يتمثل في جدل أحقية السلطة السياسية بعد النبي (ص) أم ان هناك أموراً أخرى لا بد منها تضمنها مؤدى الغدير، لا يكتمل الإيمان دونها؟
لغرض الاجابة على هذا السؤال لا بد ان نفكك ببساطة ما حدث في الغدير، فالرواية المشهورة تؤكد، ان هناك سياقاً جدياً مقصوداً ومخطط له، وله صلة بأمر سماوي، ألزم النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، ان يعلن بشكل (حاسم وواضح ما كرر الأعلان عنه في مناسبات سابقة بطرق مباشرة وغير مباشرة)، ان الذي يتولى مسيرة ما بعد النبوة هو الامام علي عليه السلام، وان هذا الامر ديني إلهي بحت، وانه يتضمن ولاية امتدادية تفرض ل (علي) ما للرسول (ص) على الأمة، وطلب من الجميع، ان يعلنوا بيعة صريحة واضحة لهذا المؤدى، وهو ما تم فعلاً في تلك الحادثة.
مما يؤسف له، ان مجريات الواقع خلاف ذلك، فقد نكلت الجماعة عما جرى بدعوى ان بيعة الغدير ما هي إلا إشارة إلى المحبة، ولا تتضمن أي توصية تتعلق بالمنصب والسلطة والتدبير والخلافة، وهكذا حصل الانشقاق المعروف، وانتهت الامور إلى ما انتهت إليه، الامر الذي يدفع المعظم إلى المطالبة بهذا التسالم الواقعي، والتعاطي معه كتحصيل حاصل مع ان الحاصل لا يحصل.
ان نقطة الخلل الرئيسة تكمن في فهم وتحديد طبيعة المهمة والمكانة التي اعلن ل (علي) عنها في ذلك اليوم، فالمتداول، انها الخلافة التي تساوي الرئاسة الدنيوية للمسلمين وتنظيم شؤونهم، وهو ما تم عبر أشخاص آخرين إلا ان الحقيقة خلاف ذلك تماما، فلم يكن امر الارض هو المهم في تلك البيعة التي قالت عنها السماء بصراحة ” اليوم أكملت لكم دينكم واتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الاسلام دينا”، فالقضية ترتبط ارتباطا وثيقا بالدين بوصفه الخط المنظم للعلاقة بين العباد وربهم.
الواضح والصريح ان مهمة هذا الدين العظيم ورسالته لم تكن لتكتمل من حيث التبليغ والفهم والتجسيد في الواقع من خلال حياة النبي الخاتم صلى الله عليه وآله وسلم فقط، وان هناك شؤوناً إلهية تتعلق بالوحي ومهامه، تحتاج الى محل ذي مواصفات خاصة لم تكن في اي احد من البشر إلا في علي عليه السلام وآله من بعد وفاة الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم، لذلك، فإن الالتزام بمؤدى الغدير امر لا مناص منه، وهنا، لا نتحدث عن اشكالية الخلافة الدنيوية وتداعياتها مع ان هذا الامر أشارة إليه واقعة الغدير بوضوح، وهو تبع للولاية والإمامة.
لا توجد اي بدائل يمكن ان يصار إليها لتحصيل نسخة إيمان كاملة تامة موصلة لرضى الله وضامنة لحسن العاقبة غير نسخة الغدير المتمثلة بالأئمة الاطهار الاثني عشر سلام الله عليهم اجمعين، وجوهر التحدي يكمن في خصوصية الايمان والتقوى ورضى الله وفهم موجباته بدون إضافة الإمامة والولاية، فلا سبيل غير سبيل علي وآله.
لينظر اي منصف الى نسخة الاسلام منقوص منها علي وآله (فعلاً وقولاً ومواقفاً وفهماً ودراية)، وليتصور شكل الاسلام في ظل هذا النقص العظيم وطبيعة المخرجات التي يمكن تصورها، ولك ان تتخيل قائمة يقف في رأسها يزيد بن معاوية وفي ذيلها داعش، وما بينها مما يندى له الجبين.
اتمنى ان يأخذ هذا النص حقه من التأمل والقراءة الواعية بعيداً عن التعصب، وليعلم الجميع، ان كاتب هذه السطور من المهتمين جدا بوحدة الموقف الاسلامي ونبذ الطائفية وإعلاء الهوية الوطنية على كل الهويات الفرعية فيما يخص شؤون الوطن والمواطنة.