بقلم -الفنان والباحث حسين صقور .. مكتب المعارض والصالات المركزي
حين الكتابة النقدية كنت أسعى للغوص في عمق اللوحة التشكيلية وأسبر أغوار التكنيك الخاص متعديا إلى شخص الفنان إذ أصور بالكلمات نبضه ووقع ريشته وحين يصير الحديث عن فنان يمتلك ( كريزما ) خاصة تؤهله ليكون قدوة عبر أخلاقه وسلوكه المتزن تصير الاشارة هنا لأهم ما يميز طبع الفنان لسببين أولهما أن سلوكه وطبعه بشكل أو بآخر مرتبط وغير منفصل عن لوحته وثانيهما أن طريق الفن الشائك والملغوم بعراقيل تتزايد مع كل نجاح يحتاج للكثير من الحنكة والحدث ليستطيع الفنان وضع قدمه في المكان الآمن واجتياز طريقه بسلام من تلك المقدمة استطيع ان أشير الى فنان معلم وقدوة عبر طبعه المجبول بالمحبة والرواق إنه الفنان أنور الرحبي ويبدو لي أن السمة الأساسية هي عدم تمسكه بشيء تلك الصورة تعكس عدم الحاحه على عمله أو تحميله ما لا يحتمل قدرته على محاكمة الامور بشكل عقلاني اضافة لأنفة كل هذا يجعل منه قدوة ومعلما بحق..
. أنور الرحبي .. أرسم كما أتكلم
أرسم كما أتكلم استوقفتني عبارته هذه كما أعماله حين كانت اللوحة مدخلاً لمعرفة الفنان. وكما أطراف حديثه حين لا يعير اهتمامًا للمفهوم السلبي لتساؤلات البعض حول كثرة المقلّدين لأعماله.
هو يرسم كما يتكلّم كما يتنفّس كما يحبّ وكما يدرك أن للوحته سطوتها وقدرتها على التأثير في الذوق العام، وبالتالي في حركة التشكيل المحلي والعالمي.
ولأنه ينصت لحدسه تناغم مع الحياة فأعطته كل ما يستحق دون أي عناء أو جهدن حتى دون أن يتحرك من عرينه، فكانت مشاربه صورًا من ذاكرة المكان والبيئة التي عايشته وعاشت فيه بكل تفاصيلها.. وكانت حصيلته الأولى مجموعة أعمالٍ تتصدّرها الأنثى الحبيبة الأم والأخت، مكلّلةً بوشاحٍ من العشق يمتدّ عرضًا على مساحةٍ تحدّد شكل التكوين لتبدو تاجًا للتواضع والكبرياء في آن.. بينما تشع النقطة الذهبية عبر الوجه الحالم الذي غالبًا ما يأتي بمساحة لونٍ مغاير.
أما الأكف فتضفي على الحلم سحره ورونقه لتبدو لوحته قصيدةً شفافة متنها وشاحٌ من الليلكي والفيروزي والأخضر يطفو على سطحٍ كالماء، وعلى شبكةٍ من خطوطٍ سوداء ترسم تفاصيل تبدو كزخارف مشغولةٍ بحسٍّ جماليٍّ أكثر حرية.
وينحسر ذيل اللوحة القصيدة (الخلفية) إلى مساحاتٍ غالبًا هي أضيق وأكثر قتامةً وكثيرًا ما يتخلّلها قطعٌ ضوئيٌّ يبدو ناظمًا عقلانيًا للتكوين، وهو من روح ألوان الشكل وظلاله يتناغم معه ويساير حركته، ويتعدد في مجموعته التالية لتصير اللوحة قطوعًا بمساحات مشعّة.. ولتتسع النقطة الذهبية إلى كامل العمل وتصير اللوحة بانوراما انسيابية متواصلة في نسقٍ شطرنجيّ يتضمّن تلخيصًا خطيًا لتجمعات إنسانية موزًعة في خانات وأدواتٍ من البيئة المحليّة، يصل التناغم فيها إلى أوجه بين الشكل الأساس (أنثى الهباري) الذي يتماهى ويكاد يختفي ومفردات الخلفية (ظلالٌ إنسانية ونوافذ وطيور وفوانيس ورموز أخرى).
تمتاز أعمال الرحبي بشدة حساسيتها للوقت الذي تعكسه عبر درجات توحي بليلةٍ قمرية، ويتجلى هذا أيضًا في الأعمال الأكثر تلقائيةً وعفوية وتجريدًا، والتي قدمها عبر لمساتٍ مائية عريضة للغامق لتلخص بشفافيتها مفهومًا جديدًا لعمل تبرز فيه قوة الشكل المطروح على خلفية وسطح أكثر نصاعةً وبياضًا يتخللها ليرسم نوافذها الضوئية، عبر خصوصية موغلة في البيئة والأنثى، وعبر تكنيك شفاف يتنقل بسلاسةٍ ما بين الذكورة والأنوثة.
وما بين التعبير الحسّيّ والتنظيم العقلاني والهندسي للعمل يأتي أسلوب الرحبي ليفوح بعطر المنطقة الشرقية، والبلدة التي ولد وترعرع فيها (دير الزور) والتي خرّجت بالإضافة إليه الكثير من المبدعين والعالميين الآخرين