في عام 1990ـ و بعد تسع سنوات من حربها الإرهابية على نيكاراغوا- أعلنتْ الولايات المتحدة الأمريكية عن موافقتها الرسمية على جلوس طرفي الصراع في نيكاراغوا على طاولة المفاوضات، مفاوضات جمعتْ إرهابيي الكونترا المدعومين من واشنطن من جهة، والحكومة الساندينية المدعومة من موسكو من جهة أخرى وانتهت بتنظيم انتخابات رئاسية فاز فيها إرهابيو واشنطن بعدما " أذعن النيكاراغويون و صوتوا ـ والمسدس مصوَّب إلى رؤوسهمـ لصالح تسليم الحكم إلى مرشح الكونترا" وذلك بحسب وصف نعوم تشومسكي، تشومسكي الذي لم يخفِ حالة الابتهاج التي اعتَرت أوساط صنع القرار في واشنطن التي نجحت ـ عبر دعمها لإرهابيي الكونترا ـ " في تحطيم الاقتصاد النيكاراغوي و مواجهة حرب بالوكالة مديدة و قاتلة، حرب انتهت ـ بحسب واشنطن ـ بأن أطاح أهل البلاد المجهدون بالحكومة غير المرغوب فيها أمريكياً، و بكلفة في حدها الأدنى، وبتركة للضحية هي كناية عن جسور مُدمّرة و محطات كهربائية منسوفة ، ومزارع خرِبة".
في نيكاراغوا، كانت الدعوة إلى انتخابات تخضع للمراقبة الدولية و تضع حداً للنزاع بين الفرقاء هي بالأساس مطلب الحكومة الساندينية التي وافقت ـ و منذ عام 1984 ـ على كل الجهود الدولية الداعية إلى الاحتكام للقانون الدولي ومؤسسات الأمم المتحدة و شرعة حقوق الإنسان لإنهاء الصراع في بلد حققَ خلال الأعوام الأربعة الأولى للثورة الساندينية نمواً كان موضعَ إطراء البنك الدولي والوكالات الأممية التي وصفته "بالتقدم اللافت الذي يكفل إرساء أساس متين للتنمية الاقتصادية والاجتماعية الطويلة الأمد لاسيما بعدما شهدت نيكاراغوا ـ و بحسب صندوق رعاية الطفولة التابع للأمم المتحدة ـ تحسُناً مذهلاً إلى أبعد حد في الحفاظ على حياة المواليد في العالم النامي "، لكن هذه الوساطات الدولية قوبلت برفض شرس من واشنطن التي أطلقت ـ بالتزامن معها ـ حملة أسمتها " البروباغندا البيضاء" و كان هدفها الترويج للكونترا على أنها " حركة ديمقراطية مقاومة تسعى للحرية والديمقراطية" وذلك لتضمن تقديم المساعدات لها دون أن توصم بالإرهاب، مساعدات وصفتها واشنطن حينها " بالغير فتّاكة " كونها اقتصرت على دعم لوجيستي يُقدم عبر دول الجوار ( الهندوراس والسلفادور) التي وفَّرت معسكرات التدريب والإيواء لإرهابيي الكونترا، إضافة لمعدات تشويش و كُتيب اسمه " العمليات النفسية في حرب العصابات" والذي يحتوي على إرشادات وتوصيات تنصح " بترشيد قتل المدنيين وبضرورة الاعتماد على مقاتلين محترفين لمواجهة الجيش النيكاراغوي والأهداف الرخوة "، أمام هذا الإرهاب المُنظم كان من الطبيعي أن ترفض واشنطن أي وساطة دولية لوقف سفك الدم في نيكاراغوا التي اعتبرها جورج شولتز ـ وزير خارجية ريغان ـ بأنها " سرطان يجب استئصاله بالطرق غير الناعمة "، مؤكداً " أنَّ المفاوضات هي التعبير المُلطف للاستسلام مالم تسقط القوة ظلها على الطاولة "، شاجباً " أولئك الذين يحبذون حل النزاع في نيكاراغوا من خلال اللجوء إلى الوسائل الطوباوية القائمة على التمسك بالقانون الدولي أوالوساطات الدولية أوالأمم المتحدة أومحكمة العدل الدولية " فهؤلاء ـ على حد تعبيره ـ ليسوا إلا قوم " يتجاهلون عنصر القوة في المعادلة".
في الحقيقة، لم يكن موقف واشنطن من دول أمريكا الجنوبية إلا تطبيقاً لمبدأ مونرو الذي يعتبر تلك الدول مجرد " حدائق خلفية " للولايات المتحدة، وبالتالي ليس أمام شعوبها إلا خيار من بين اثنين : إما التبعية أو مواجهة إرهاب واشنطن وصولاً لفرض التبعية نفسها، هذه الوصفة تحاول واشنطن اليوم أن تفرضها على " محور التحدي الناجح " الممتد من ايران إلى جنوب لبنان وذلك عبر استهداف إحدى ركائزه الأساسية أي سورية، ومن ثم ابتزاز بقية الركائز بطريقة تضمن مصالح الأمن القومي الأمريكي الذي يُشكل أمن " إسرائيل" إحداها، ومن هنا لا يبدو مستغرباً أن تعلن واشنطن ـ و في خضم مفاوضات (جنيف2) ـ أنها "ستدعم المعارضة المعتدلة بأسلحة غير فتاكة "، هذه الخطوة تُمثل تكراراً لموقفها الذي اتخذته عشية إطلاق المفاوضات حول نيكاراغوا، موقف واشنطن هذا يحمل العديد من الدلالات أوَّلها أن واشنطن باتت ترى في الإرهاب مجال نفوذها الطبيعي، وبالتالي يكون دعمه ضرورياً في مرحلة التفاوض من منطلق أن إحدى القواعد الذهبية التي تحكم فنَّ التفاوض تقول " إن من يتخلى عن نفوذه يخسر".
أما الدلالة الثانية فهي أن واشنطن باتت اليوم تميز بين نوعين من الإرهاب : النوع الأول هو الإرهاب الذي يرتكبه حلفاءها من بدو الثلوج و بدو الرمال على الأرض السورية، هذا الإرهاب تصنفه واشنطن على أنه " إرهاب طيب "، وبالتالي لابد من دعم مرتكبيه "بمعدات غير فتّاكة" أي معدّات تٌمكنهم من تحديد إحداثيات مجازرهم مع هامش للخطأ قدره 0،05 ".
أما النوع الثاني فهو "الإرهاب الخبيث" الذي يطال حصراً دول الغرب ويخولّه ـ والحالة هذه ـ تدمير دول ذات سيادة لمجرد الاشتباه بان مرتكبيه ينتمون إليها.
بتقديرنا، التمييز بين هذين النوعين من الإرهاب ليس إلا التطبيق الحرفي لمبدأ نازي قديم اسمه "مبدأ التناسبية " والذي ينص على أنَّ ما يقرر حجم الرد على العدوان ليس وقوعه وإنما مدى تضاربه مع قيم المجتمع الذي يكون ضحيته، واليوم بات جلياً أنّ ضحايا الإرهاب ليس لهم القيمة الإنسانية ذاتها في نظر واشنطن وحلفائها.
بدعمها " الإرهاب الطيب " بأسلحة أليفة " تكون واشنطن قد كرّست الاعتقاد القائل بأنها لن تمتنع عن الاستثمار بالإرهاب حتى تمتنع الكلاب عن ملاحقة القطط ، و تكون إدارة الرئيس أوباما قد دشّنت ـ و من (جنيف2) ـ حقبة " الحرب الفاترة " ، حقبةٌ ستحاول واشنطن خلالها أن تستثمر" بالإرهاب الطيب " بغاية استنزاف محور" التحدي الناجح " إصراراً منها على إسقاطه بالنقاط بعدما بدا من المستحيل ـ حتى الآن ـ إسقاطه بالضربة القاضية.
إنه زمن العار الذي ما فتئ يخيم على الإنسانية منذ أن ارتكب كريستوف كولومبس خطيئته التاريخية باكتشاف أمريكا، خطيئة لا يجُبّها غفران في عالم ذي قطب أوحد اسمه الإرهاب الأمريكي.