د.نعمه العبادي- العراق
يعد البحث عن جذور الاخلاق ومصدر إلزامها ودواعي البعث إليها، أحد اهم واقدم المطالب في الفلسفة وعموم دراسات الدين والقانون وعلم النفس وفروع العلوم الاخرى، ويقع الخلاف حول ذاتيتها وتجردها عن اي باعث آخر (مادي أو معنوي) سوى انها أمور فطرية يدرك حسنها الجميع بغض النظر عن التوجه الديني أو انها مشروطة بإلتزام عقدي، وهي ذات صلة وثيقة بالدين، ولا يمكن ان تنفك عنه.
في كتابه المميز والذي هو بالاصل رسالته للدكتوراه في جامعة السوربون ” دستور الاخلاق في القرآن” يناقش الدكتور اللامع محمد عبد الله دراز رحمه الله هذه الفكرة، وينتهي إلا انه لا مكان للاخلاق بدون عقيدة، ويعني بالعقيدة هنا الايمان، ويفرق بين موقف الملحد والمؤمن امام موجبات السلوك الاخلاقي، فالأول يقف عند فكرة جامدة او عند كيان اخرس فيما يتعرف المؤمن في هذا النداء الداخلي على صوت معبوده، فهذه الشعلة العاطفية التي تحرك (إيمانه العقلي)، تغذي، في الوقت نفسه (طاقاته الخلاقة)، وبذلك يمكن القول إن الاخلاق لا تجد مكانا اكثر خصوبة، تزدهر فيه، من ضمير المؤمن، ويمكن القول، حقيقة لا مجازا، إن (الواجب مقدس).
تمثل ملحمة البذل والعشق الحسيني التي تشكلها لوحة زيارة الاربعين التي نعيش نفحاتها هذه الايام، خليطا من الممارسة الاخلاقية والارتباط العقائدي، وهذا الخليط يغذي بعضه البعض الآخر، لذا لا يمكن النظر بإيجابية إلى اي مخرج اخلاقي من اي احد في هذه الفعالية المباركة إذا لم يكن مرتبطا عقديا بالحسين (ع) وقضيته ثم بالامامة ومن قبل ذلك بالتوحيد والعبودية لله، كما، انه، لا يمكننا تصور وعيا عقائديا مرتبطا بالحسين دون ان يكون اخلاقيا في تجسده، لهذا فليفرح الجميع في هذا الموسم الإلهي، ان مختلف اشكال الممارسة الاخلاقية (بالقول والفعل) هي نحو من الاندكاك والذوبان بشكل مستمر ومتنامي في الولاية والطاعة المرتبة إرتباطا وثيقا بالحب الالهي وبالتوحيد.
ان هذا يكشف النقاب عن هذا السر والطلسم العجيب الذي أنبأ به النبي صلى الله عليه وآله وسلم “إن للحسين حرارة في قلوب المؤمنين لن تنطفأ إلى يوم القيامة”، فهذه الحرارة التي تتجلى في مختلف الممارسات الاخلاقية سواء عبر التفجع والحزن والشعور بالألم، او من خلال الاحساس بالعزة والكرامة وتحدي المحن، تنسج وشائج مميزة من الصلة بالله عبر ثلاثية (الاخلاق- الولاية- التوحيد)، لذا فإن الاصوات النشاز التي تحاول النيل من فعاليات ممارسة العشق الحسيني عبر التشدق بالدفاع عن التوحيد والتنزيه والايمان والشرك، محرومة حرمانا تاما عن إدراك معطيات هذه النعمة العظيمة التي تمثل حالة مزدوجة من الايمان والتمثل الاخلاقي، فهي تثبيت وتطهير في آن واحد.