في ذكرى شهادة رحمة رب العالمين.. النبي الأكرم محمد صلى الله عليه وآله وسلم..
د.نعمه العبادي- العراق
لا يزال الأفق يتوشح بسواد الحداد منذ عاشوراء الحسين، ليختم هذا الموسم العبادي المهم بشهادة الرسول الاعظم (ص) في الثامن والعشرين من صفر، والتي يفصلنا عنها ساعات، ومما يسعد القلب (رغم فاجعة هذه الايام)، ان هناك وعيا متزايدا، واصرارا اكبر من اجل أحياء ذكرى شهادة النبي بما يليق بها من مراسم وطقوس، ومع صعوبة إحيائها عند قبر رسول الله (ص) في المدينة المنورة، يستعاض عن ذلك بإحيائها عند قبر حبيبه وعضده وزوج ابنته الامام علي (ع)، حيث تزحف الجموع المليونية إلى النجف الاشرف، وفي هذه الذكرى أعيد التذكير بجملة من الموضوعات المهمة والحساسة التي اتطلع ان تأخذ حقها من الاهتمام والنقاش والتداول، وهي الآتي:
١/ إن هذا التباني مجهول المصدر على الصمت والتدليس حول ذكرى وفاة اعظم واكرم المخلوقات، والذي نرتبط بشخصه بألف وشيجة ووشيجة، لا يمكن له أن يستمر، فمن غير المعقول ألا يوجه أكثر من ملياري مسلم لأنفسهم سؤالاً شجاعاً عن موقفهم من وفاة النبي (ص) واهمالهم لها مع اهتمامهم بمناسبات تافهة لا قيمة لها، ومن يعتذر بأن رؤيته الفقهية تتقاطع مع الصور الطقسية التي يتم عبرها الأحياء حالياً، فالامر يسير، إذ توجد ألف فعالية وفعالية للأحياء، مثل المؤتمرات والندوات وحلقات النقاش واعمال البر والاحسان وبذل الطعام والمهرجانات الشعرية ومعارض الرسم والخط ومعارض الكتب ومسابقات التأليف وغيرها من اشكال التعبير المختلفة، والتي تناسب كل المشارب الفقهية، فالمهم ان يظهر العالم الاسلامي (الرسمي والشعبي) تفجعه على هذا اليوم العظيم، حيث يتم تعطيل العمل الرسمي، وتجري في كل بلد فعاليات تتناسب مع قدراتهم وظروفهم، ومن باب الأولوية، يفترض ان تكون مدينة رسول الله هي الشاخص الابرز في هذا الاحياء.
٢/ ان هذه القطيعة النفسية والمشاعرية تجاه النبي (ص)، والتعامل بانتقائية فيما يتصل به وبحياته، وبكل ما اكد عليه واشار له في حياته عبر سنته الشريفة، هي الاخرى تحتاج الى تساؤلات شجاعة وصريحة، فقد طلب بشكل صريح وعلى لسان القرآن الكريم، أنه لا يطالب أحدا بأجر على إسلامه غير المودة في القربى، وهذه المودة في حقيقتها تعود إلى الانسان نفسه، كما، انه بالضرورة لابد ان تكون هناك صلة روحية وعقدية وعاطفية معه ومع آله الكرام، ويتبع ذلك خطوات جادة على مستوى الفعل، وهو ما لم يفكر فيه معظم المسلمين في الارض فضلا عن تجسيده في مواقف عملية، بل ان هناك سلوك معاكس ومنافي لدعوى الإرتباط بأهل بيته الكرام، تحت حجج مختلفة.
٣/ لقد اوصل مسار التطرف والتكفير والتعصب في كل الاتجاهات المذهبية واقع العلاقة بين المذاهب الى درجة من التقاطع والاختلاف، يمكن تمثيلها على شكل شعاعين متوازيين ومتخالفين في المسار، واصبحت زاوية الافتراق في ظل ذلك تساوي (180) درجة، وهو واقع أسكت اصوات الاعتدال والعقلانية والرؤى الموضوعية، وبلور توصيفا للعلاقة بين المذاهب، على أنها عداءً أيدلوجياً، يتبعه موقفا عمليا متشددا، وهي حالة يدفع في ظلها الوجود الاسلامي خسائر فادحة، سواء على مستوى الموقف العقائدي او الاخلاقي او التنظيمي؛ بل وحتى الصحي والنفسي، ولهذا من الضروري ان تكون هناك وقفة جادة لاعادة النظر في هذا الاذعان والاستسلام لمنهج التطرف والتكفير والتماهي معه.
٤/ منذ قرون، ومشروعا التقارب والوحدة يراوحان محلهما دون ان يتقدما الى الامام بخطوات عملية جادة، ومع ذلك يصر بعض القائمين على هذه الاعمال الالتزام بنفس المقاربات المقدمة كأطار نظري وخريطة عملية للانجاز، وهو امر لا ينبغي ان يستمر على هذا الوضع، إذ لا بد من تقديم مقاربة مختلفة تمازج بين فهم سيسولوجي ونفسي لحقيقة ما ورائيات التباعد بين تكوينات المسلمين المختلفة، وتدخل في خطط عملها، المردودات السياسية والاقتصادية والكلف والمخاطر التي تترتب على بقاء هذا التقاطع، وهو مشروع يحتاج الى غطاء نظري عميق.. وتفكير خارج الصندوق القديم المعهود.
٥/ على الرغم من الضجيج العالي، والمشهد الدعائي الذي احاط ما يسمى بمحاولات التجديد، ومنها التجديد عبر المنهج المقاصدي إلا ان الحقيقة تثبت، ان كل هذا النتاج لم يرقى إلى درجة كونه صياغة لميكانزمات التفكير، ولم ينتج صورة اجتماعية جديدة، ولم يشكل اطاراً عقائدياً مختلفاً، وقد تدرع وأحتمى كل ما هو نمطي وتراثي ومعهود في اسواره المحصنة دون أن يلمسه التغيير المنشود، لذا فان هذا الخط من المحاولات تأكد فشله بوضوح، ويعود السبب في فشل الكثير منه إلى الاستناد على ارضية هشة من المعرفة، او رفع سقوف التغيير بطريقة تكاد تساوي النسخ والاستحداث التام، او الانطلاق من موقف استعلائي او اشكالية نفسية، او اسقاط منهج مستعمل في رؤى عقائدية مختلفة في الظروف والزمان والمكان على واقع الاسلام المختلف، لذلك لا يمكن التعويل على هذا المسار في انجاز نتائج واقعية تحدث تغييراً حقيقياً في الاعماق، فالامر يحتاج الى مغادرة لكل تلك المحاولات، والاشتغال على محاولة البحث عن الحقيقي والاصيل من المنظور الديني، فالمهمة ليست ابتداع جديد؛ بل الكشف عن وجه الحق المغيب والصدق المختطف والعدل المدلس عليه، ورسم الحدود الواضحة بين التنزيل والتأويل والفهم والنص والمعصوم حقاً والمعصوم وهماً، وهي مهمة لا تشبه ما يسمى بالسلفية، فهذه صورة مختلفة لنسخة مبتدعة تقدم على انها العودة إلى الاصل، وحقيقتها خلاف ذلك.
٦/ يعيش العالم ازمة اشكالية التضاد بين المصالح والاخلاق، وهي ازمة تنزلق فيها المؤشرات تجاه المصالح والنفعيات بشكل كبير بغض النظر عن ادوات تحقيقها، والاثر الاخلاقي الذي يترتب عليها، ولا تزال محاولات التصحيح في هذا الاطار تراوح في فضاء الخطاب الوعظي الذي يعتمد على الحشد اللفظي، ومثالها الاوضح ما تقدمه معظم الفضائيات المحسوبة على الاتجاهات الدينية، وهو منهج لم ولن يستطيع الوقوف امام منحدر الانزلاق، لذلك لا بد من الكشف عن المحتوى الاخلاقي المرتبط بالمصالح من زاوية معرفية مختلفة، فهو موقف ايجابي من المصالح، لكن من زاوية دعم المفيد حقاً، وان كان ظاهره خلاف ذلك، والعكس صحيح، وبهذا يظهر المحتوى الاخلاقي المحمدي الاصيل، بوصفه داعماً ومسانداً للمصالح، شريطة ان تكون تلك المصالح ذات فائدة حقيقية، وليست لذات عاجلة تتبعها منغصات آجلة، وهذا الكشف استحقاق مهم لا بد من الانطلاق فيه من نقطة مراجعة جادة لمنظمومة الاخلاق الاسلامية المضمنة في القرآن الكريم والسنة المطهرة، مع السعي على ربط الناس بالاسوة الحقيقيين، الذين جسدوا هذه الاخلاق في سلوكهم العملي اكمل تجسيد، وهم محمد وآل محمد صلوات الله عليهم اجمعين.
٧/ يمثل الصعود المتعاظم للاسلام السياسي بأشكاله المختلفة، وما يصر عليه خطاب هذا الاتجاه على ان نسخته هي الوريث الحصري للإسلام المحمدي مع ما تركه من آثار سلبية عظيمة على الكيان الإسلامي، تحديا عظيما، يحتاج إلى علم اجتماع ديني قادر على فهم ودراسة هذه الظاهرة بكل مالها وما عليها، وان يتم الكشف عن ميكانزمات التعبئة والتحشيد التي يستخدمها هذا الاتجاه، كما، اننا بحاجة إلى مراجعات مختلفة، وقراءات جادة، واشتغالات معرفية حول وفي كل الحالة الاسلامية الراهنة.
اتمنى ان تكون هذه الاشارات مفاتيح لحوار جاد ومنتج، وان تنال ما يليق بها من الاهتمام والتداول خصوصاً من اهل الوعي والمعرفة واصحاب الضمير الحي، وان لا يكون منطلق التعاطي معها على قواعد التفاعل مع منشورات الفضاء الازرق…
اللهم عرفني نفسك.. فأنك إن لم تعرفني نفسك.. لم أعرف رسولك.. اللهم عرفني رسولك.. فإنك إن لم تعرفني رسولك.. لم أعرف حجتك.. اللهم عرفني حجتك.. فإنك إن لم تعرفني حجتك.. ضللت عن ديني…
ادعو الجميع لإحياء هذه الذكرى العظيمة بما يليق بها وبصاحبها، وان يظهر التفجع والحزن الذي يتناسب مع شهادة النبي الاكرم صلى الله عليه وآله وسلم.