في مجموعة “مزن فوق السحاب”* للشاعرة سوسن ابراهيم
د. عماد الحيدري
يبدو أن اللغة الشعرية في سياقاتها السائدة وبوساطة أساليبها الصياغية المتنوعة لا يمكن لها الاستغناء عن أنساق محددة بعينها تقوم بدور التنشيط وتقوية أواصر العلاقات الدلالية فيما بينها وهو ما تلمسناه في قصائد الشاعرة سوسن ابراهيم في مجموعتها البكر “مزن فوق السحاب” إذ نلحظ نسق التثنية بالتضاد مرة وبالتوافق أخرى إشباعًا ربما لرغبة إحتياج الآخر أو الحلول فيه أو الانتماء إليه.
والانتماء شعور سايكولوجي ليس بالضرورة أن يكون مشروطًا أو مصاغًا بقوالب محددة تجعل منه نمطيًا أو منساقًا وراء الأيديولوجيا وإنما قد يتمظهر على شكل ممارسات لغوية تتخذ من التثنية همًا شعريًا متدفقًا ولا سيما في أحوال التضاد التي غالبًا ما تضفي على البنى النصية النثرية افتراضًا إيقاعيًا كما في قولها:
يعتريني حزنٌ عميق
يملأ أوردتي
يأخذ كل محطات الفرح ص١٦
فالحزن والفرح هنا مفردتان متضادتان بوجودهما يمكن تلمس الانتماء إلى الحياة وتلمس الارتباط الوثيق بينهما إذ لا وجود للفرح إذا لم يكن مسبوقًا بالحزن والعكس هو الصحيح، ففي نص”صلاة الحب” يوحي العنوان بالإقبال على الحياة عبر هذه الممارسة التي تشيع جوًا من التوافق والانسجام على الرغم من استهلاله بعبارة (يعتريني حزن عميق) فإن ختامه سيكون انتصارًا للحياة:
وتنتصر الحياة
وتحيا الروح من جديد ص١٧
وفي نص “عودة” يتجلى الحوار بين الشاعرة وروحها على شكل مونولوج داخلي تتعانق فيه الثنائيات مرة وتتعارض أخرى فتقول في مطلعها:
عدتُ إلى روحي أزجرها
وأزورها مقدسات السماء
فلا هي عادت إليَّ
ولا أنا تهتُ في هاتيك الجبال ص٢٣
فالزجر والزيارة يلتقيان في فعل العودة (عدتُ) وهما متضادان لكي يمنحا للمطلع قوة الاستمرارية المتحصل عليها من فعليْ المضارعة (أزجر، أزور) إلا أن الصدمة الناجمة عن خطاب هذا المطلع تكمن في نفي عودة الروح المتناقض مع العنوان فضلًا عن نفي التيه عن الذات وهو نفيٌ مكتنز بدلالة الإنتماء فعدم عودة الروح يفضي إلى شعور بالاغتراب وعدم التيه يومئ إلى تعلق الذات بالأرض وتشبثها بالوطن ولا سيما إذا أكملنا الحوار:
قلت لها:
لا تغدري بوطنٍ أحلى وأجمل من الخيال ص٢٣
وهنا تتضح صورة الاشتغال على فكرة الإنتماء بوصفها حمولة دلالية ظاهرة على سطور النص إذ لا تكاد تخلو واحدة من مفرداته من حمولتها.
وفي نص “أنا وهذه” نلحظ حمولة الإنتماء وهي تتجلى عبر ثنائيات مثل: الغيم والمزن إذ تجعلهما عاشقين وكذلك السماء والأرض من دون فاصل بينهما لأن العشق بينهما أدى إلى الالتصاق، وهنا نشير إلى أن الشاعرة تضع نفسها بين كل ثنائية فهي بين الغيم والمزن غريبة وهي بين السماء والأرض مثل هاروت وماروت وهي بين الشوق والحب تناظر الهواء وهي بين المحبة والعطاء قيمة عليا وهي الإنسانية.
فالإنتماء هنا مكتنزٌ بتقدير الذات بوصفه دلالة سايكولوجية قادرة على الانوجاد في شتى الميادين باختراقها الخطوط الحمراء الوضعية على مستوى المجتمع وهو ما لمسناه كذلك في نص آخر بعنوان “حان الوقت” إذ تقول فيها:
حان الوقت
كي أرحل عن ها هنا
…
أنا والموت توأمان
نتصاحب معًا
ونحيا معًا ص٢٥
فالمقام عند الشاعرة في مكان واحد يعني البقاء ضمن الحدود المرسومة منذ النشأة وهو ما لا تحتمله روحها الطامحة نحو واقعٍ مغاير شرط أن يحمل معه الإنتماء الحقيقي فهي تقول في نص آخر:
مللتُ جدتي
مللتُ البقاء ها هنا
أنا أحضر أمتعتي للرحيل
انتظريني يا أماه ص٢٧
إذ حتى لو كان الرحيل نحو العالم الآخر الذي قد يشوبه السأم من الحياة ومنغصاتها وتقدير الذات غير المحتملة لتلك المنغصات لكنه بأية حال من الأحوال طموح نحو التغيير المنشود.
أما تقدير الذات فنراه مبثوثًا في كثير من نصوص المجموعة ففي نص “من أنا؟” تتكرر مفردة (أنا) وهي تقترن دائمًا بأوصاف جديرة بحمولة الإنتماء كما في جوابها:
أنا
هنا ألملم كل أوجاع الثكالى
من الفرات إلى النيل ص٤٢
وهي المسافة المشتملة على رقعة كبيرة من الوطن العربي يعيش عليها أبناء هذا الوطن الذي تنتمي إليه الشاعرة التي لم يعد يعنيها شيء سوى وطنها فهي تقول:
لم يعد الحب قيسًا وليلى
وجميلًا وبثينة
وكثير وعزّة
أصبح حب وطني
هو الأكبر ص٤٤
وفي نص “أحيا” تتشكل رؤية الشاعرة لثنائية الموت والحياة بوصف الموت ببعده التجريدي هو الوجه الآخر للحياة فهي تسعى إلى أن تجعل من الموت حالة طبيعية لأنه مصير محتوم يختم الإنسان وكل الكائنات الحية حياتها به فتستهل نصها:
أقبّل الموت
وألثمه كل صباح فيأبى ص ٦١
وهنا تسعى الشاعرة إلى تعريف الأشياء بلغتها الشعرية ورؤيتها الخاصة بها بعيدًا عن التعريفات العامة فهي لا تهرب من الموت بل تقبّله وتلثمه كما تقبّل الحياة وتلثمها ولكن الموت يودعها ويهجر سريرها:
أناظره فيعاتبني
أحاججه
فيعانقني قبلة الوداع
ويهجر سريري الأبيض
فأحيا والسلام ص٦١
تخلق التشكيلات الصورية علاقات جديدة بين الألفاظ غير العلاقات المألوفة ولا سيما فيما يتعلق بحمولة الإنتماء وهي تستدعي لفظة الوطن التي باتت تشكل همًا ابداعيًا مكتنزًا في ذاكرة الشاعرة المعرفية يطوف على مساحةٍ شاسعة من نصوص المجموعة:
يجزئون الوطن
صلاتهم كالزجاج ص٨٥
فما عاد المكان يعنيني
إذ وطني مجروح ذبيح ص٩٠
فكان وطني صومًا ص٩٣
وثوب الحقيقة خشن أسود
يلف وطني ص٧٤
لقد استطاعت سوسن ابراهيم في محاولتها الشعرية الأولى أن تمزج بين واقعية الأفكار وبين الصور المبتكرة لتبدع لنا نصوصًا هاجسها الإنتماء ولا سيما تلك المشتغلة بوساطة نسق التثنية.
____________
* مزن فوق السحاب: سوسن ابراهيم، دال للنشر والتوزيع، سورية – دمشق،