ولد جينيه في التاسع عشر من شهر كانون عام 1910 في باريس لوالدين لم يعرفهما طوال حياته، إذ وجد مرمياً على قارعة الطريق في اليوم الأول لولادته، فأرسل إلى دار اللقطاء لرعايته، وبعد سنوات سلمته إدارة دار اللقطاء إلى أسرة فرنسية ريفية تقطن في مدينة (مورفان) لترعاه وتتولى شؤونه، مقابل إعانة مالية من الحكومة.
ويبدو أن هذه العائلة لم تقبل به إلا طمعاً في المنحة المالية التي كانت تحصل عليها في مطلع كل شهر، ولهذا فإن الطفل جان جينيه إن كان قد وجد المأوى الذي يحميه من التشرد والجوع، فإنه افتقد الحب والحنان والرعاية والتوجيه الأخلاقي، ونشأ وهو يشعر أنه أصبح من المنبوذين الهامشيين، فأضحى حاقداً على المجتمع وعلى الحياة والأحياء، وهذا ما يفسر لنا وقوفه مع المضطهدين والمقهورين، وحين يفجرون غضبهم أو ثورتهم العارمة في وجوه ظالميهم، فإنه يشعر غريزياً أنه التحق بهم حسياً ثم عقلياً بعدئذ.
وحين استلم جينيه شهادة ميلاده من دار اللقطاء وكان في الحادية والعشرين من عمره اكتشف أن أمه الخاطئة اسمها غابرييل جينيه وهذا كل ما عرفه عن ماضيه الأسري..
ارتكب جينيه منذ حداثته حتى العقد الثالث من عمره عدة مئات من الجرائم: (سرقة، تشرد، مشاجرات، تعاطي مخدرات، تزوير أوراق رسمية- شذوذ خلقي)، ما أدخله السجن 13 مرة.
وأخيراً ضاقت صدور القضاة بسجله الإجرامي الحافل بالمخازي، فحكم عليه بالسجن المؤبد وخلال وجوده في سجن باريس كتب روايته الشهيرة (سيدة الزهور) وفيها روى بواقعية مؤثرة، تجاربه في العالم السفلي الذي كان يُبهجه ويروق له، كما وتحدث بمرارة عن معاناته ومشاهداته في السجون التي دخلها، فضلاً عن طبيعة مشاعر السجناء بين الجدران الأربعة وقد صدر هذا العمل عام 1942.
أحدثت الرواية المذكورة ضجة في الأوساط الثقافية الفرنسية ونالت إعجاب واهتمام سارتر وسيمون دي بوفوار وجان كوكتو وكامو وبيكاسو الذين ناشدوا رئيس الجمهورية الفرنسية ووزير العدل على إطلاق سراحه والعفو عنه بكفالتهم وتكريماً لموهبته الأدبية الفذة التي أضافت صفحة مشرقة للتراث الأدبي الفرنسي فوافق على هذه الرغبة الجماعية في سابقة لم يعرفها القضاء الفرنسي من قبل..
وبعد خروجه من السجن الذي لم يعد إليه أبداً، عاد إليه توازنه النفسي المفقود والتزم طواعية باحترام القانون متابعاً مسيرته الأدبية المظفرة فكانت حياته الفضائحية من أسباب إقبال الفضوليين على اقتناء كتبه.
يقول سارتر في شهادة مطولة له عن جينيه أوردها في كتابه الضخم وعنوانه (القديس جينيه ممثلاً وشهيداً) ما لفظه: (إن جان كذاب، ولص، وشاذ جنسياً، وعبقري وقديس وشهيد).
لقد آمن بالمسرح ليكون صلة وصل بينه وبين المتلقين، فكتب العديد من المسرحيات الذهنية الذكية التي اعتمدت على ذكرياته القديمة ومواقفه السياسية ولعل أشهرها مسرحية (الخادمات) 1956 و(الحواجز) 1961.
كان جينيه معجباً أشد الإعجاب إلى حد التماهي بالمتصوف الشهير الحلاج الذي تعرف عليه من خلال كتاب المستشرق الفرنسي لويس ماسينيون الذي ترجم أخبار الحلاج ونصوصه النثرية والشعرية إلى الفرنسية بما يعرف بكتاب (الطواسين) فكان هذا الكتاب الأثير على قلبه يصطحبه معه في أسفاره ضمن حقيبة صغيرة فيها بعض ملابسه وأضاف إلى كتاب الحلاج بعد ذلك كتاب (ألف ليلة وليلة) بالعربية طبعة بولاق الذي قدمه إليه كهدية الراحل الكبير سعد الله ونوس.
توفي جان جينيه في الخامس عشر من نيسان عام 1986 بعد إصابته بمرض السرطان وقد طلب في وصيته أن يدفن في المغرب وبمقبرة إسلامية، فتم له ما أراد ودفن في مقبرة مدينة طنجة، بحضور صديقه الأديب المغربي محمد شكري .
إعداد : محمد عزوز