عندما تصبح الحرب نشوة يصبح الموت كأسا من النار .. وعندما تصبح الحرب كأسا للوطن يصير الموت نشوة .. أما عندما يصير الموت شهوة فتصير الحرب مثل محرقة يرتمي على جمرها المقدس الحالمون بالحور العين كما يقتحم البوذيون النار ..
ولكن بعد خمود النيران في معركة حلب ننبش الجمر ونقلب الرماد ونلقي نظرة على الأجساد والجثامين لنرى أن جيش الفتح كان قد ارتمى على الجمر الذي فرشه له الجيش السوري وشرب الموت كما لم يشربه من قبل .. فهناك أسئلة محيرة عما حدث للمسلحين على أسوار حلب لأن الموجات البشرية التي تم الدفع بها بسخاء طرحت سؤالا عن الخزان البشري الجهادي الذي لاينضب حتى صار الرصاص الغزير لايكفي لأن الأجساد فاقت الرصاص عددا .. وكان ملك الموت يلهث متعرقا وهو يجمع الأرواح التي لاتزال عالقة بأجسادها على الأسوار تنتظر من يقطفها من على تلك الأجساد المحترقة .. ولكن التنقيب بين الجمر والدخان والأرواح المزدحمة يكشف لنا فاجعة سورية من نوع خاص لأن الخزان الجهادي الآن بدأ بسياسة تغيير القرابين ويخص السوريين "بالاستشهاد" وقد خصص كل مابقي من الحور العين لشباب صغار سوريين قدموا من الأرياف التي تبحث عن الله قبل الخبز .. وعن عشاء مع النبي قبل العشاء مع الاخوة والعائلة ..
فقد كان من الملاحظ دوما أن نسبة المقاتلين الأجانب الذين يتم الاحتفال "باستشهادهم" في الحرب السورية دون خجل يمثل نسبة كبيرة من قتلى المجموعات المسلحة .. ولكن حدث شيء ملفت للنظر من الناحية الاحصائية في معركة حلب وهو تراجع نسبة القتلى الأجانب بالمقارنة مع ارتفاع نسبة قتلى المعارضة من الجنسية السورية .. فوفق احصاء أجراه أحد الأصدقاء الناشطين الذي أرسل لي ملاحظاته – وهو خبير في علم الاحصاء – فان عدد قتلى المعارضة قارب 1000 قتيل وفق تقديرات عديدة وتراوحت تقديرات الجرحى بين 1500- 2200 جريح .. أي أن عدد الذين تمت اصابتهم هو بين 2500 – 3200 شخص .. ولكن المعارضة ترفض هذه التقديرات وتتكتم حتى اللحظة عن العدد الاجمالي وتتركه دون توضيح ولاتعترف الا بنصف هذا العدد وتترك التساؤلات دون تعليق مما يشير الى أن معركة حلب كانت في خسائرها البشرية موجعة جدا وذلك بسبب الانفعال والارتجالية في الهجوم والتضحية بالمقاتلين دون اعتبار أنهم بشر ولايجب القاؤهم الى أي تهلكة ..
الا أن تحليل المعلومات عن أرقام الضحايا التي تنشرها التنسيقيات التي لاتقر بهذا الرقم الكبير وتكتفي بتقديرهم ببضع مئات يكسف ملاحظة ملفتة جدا للنظر .. تحليل المعلومات وارقام القتلى وأسمائهم كما تنشر التنسيقيات والجهات المعارضة ومقاطعتها بمعلومات الاستخبارات يكشف أن نسبة (اللاسوريين) العرب والمقاتلين الاجانب والتركستان في معركة حلب هي الأقل بين هؤلاء والذين شكلوا لأول مرة في الحرب نسبة 8 % وهي الأقل على الاطلاق في كل المعارك على الارض السورية التي كان الغرباء يشكلون نسبة كبيرة من القتلى والمصابين .. وهذا يعني أن 92 % من القتلي والجرحى هم سوريون هذه المرة بعد ان كانت النسبة تتراوح بين 30 – 50 % .. ولكن بتحليل العينة يتبين أن نسبة الضحايا الكبرى هي من أرياف مدينة مدينة ادلب والتي كانت كاسحة وتمثل 88% من المصابين القتلى والجرحى .. وحسب البيانات فان تحليل أعمار هذه الشريحة يضعنا أمام فاجعة وهي أن متوسط أعمار هؤلاء الشباب الذي قضوا أو جرحوا واصيبوا باعاقات خطرة هو 17 سنة .. وعلينا أن ندرك أننا لانزال في الأيام الاولى لمعركة حلب التي ان استمرت على هذا المنوال من الابادة الجماعية فان هناك عشرات الآلاف من الشباب في أرياف حلب وادلب على موعد مع موت سريع بسبب التفوق الناري للجيش السوري الذي يتحصن في خطوطه الجديدة مما يجعل خسائر المهاجمين فلكية .. وهذا مايعني أن الحشد العسكري لجيش الفتح والجهاديين بدأ يعاني من خلل في الموارد البشرية مما سيفتح ثغرات عسكرية .. ولكن المتابعين الذين يرصدون عمليات التجنيد بؤكدون أنه رغم وجود خزان بشري كبير تحشده المساجد والدعاة الوهابيون فان عملية التعويض ليست سهلة لأن الفراغ لايمكن ملؤه بسرعة وبنفس نوعية المقاتلين الذين يموتون بعد أن اعتادوا ظروف القتال .. وستكون معركة حلب سببا في اختلال التوازن بين الوارد الجهادي والصادر .. لأن ماسيتم تجميعه في شهر سيفنى في ايام اذا ماواظبت غرفة عمليات الفتح على العناد والزج الكثيف لعناصرها من أجل انتصارات جانبية واعلامية لاتستحق كل هذا الثمن الباهظ ..
وقد يحاول البعض أن يتفاءل بهذه الصورة بتفسير يقضي بأن الزخم الجهادي يتراجع وأن عملية التجنيد من العالم الاسلامي صارت اما صعبة أو أنها تعاني انتكاسات خطيرة وصعوبات بسبب طول الحرب وظهور شكوك حول صحة الجهاد في سورية لكن لاشك ان عملية التجنيد للجهاد في سورية لم تضعف كثيرا وأن الخزان البشري من الجهلاء والبسطاء في العالم الاسلامي الذي تشتريه السعودية مليء وغزير .. الا أن اتساع أرض الجهاد جعل عملية الانتقال الى سورية خيارية وجعل خيارات المجاهدين أكبر لأن هناك أراضي جهاد متاحة وواعدة أكثر وأكثر سهولة في ليبيا وفي سيناء ولبنان وافريقيا واليمن بل وحتى في تركيا و اوروية .. ومع هذا فان هناك جهدا مركزا على توجيه التجنيد وحشده ليكون الى سورية ماأمكن ..
علاوة على ذلك فان المتابعين لعملية التجنيد وتوزع العناصر الجهادية في سورية يرون أن عملية عدم اشراك الجهاديين هذه المرة في معركة حلب والزج بالعنصر السوري بكثافة ليس قادما من فراغ أو من قبيل الصدفة او سوء التقدير ولاحتى بسبب نقص الخزان الجهادي بل لأن عملية انتقاء القادة والوحدات الجهادية المقاتلة في أية معركة تخضع للقيادات العليا في الشمال السوري والتي تتولاها المخابرات التركية والسعودية وينفذها القادة الميدانيون بحذافيرها دون مناقشة ودون أن يكون لهم أدنى تفسير لتغييراتها .. وعلى رأس هؤلاء عبدالله المحيسني .. ويبدو بالتحليل أن معظم الذين قتلوا في معركة حلب كانوا في الصفوف الأولى وضمن الأمواج البشرية المتلاحقة التي أبيدت طلائعها أما الجهاديون الأجانب فتركزوا في معظمهم هذه المرة في الصفوف الخلفية مع بعض الانغماسيين .. وهذا مايفسر تراجع عدد القتلى الأجانب الذين قدموا في معركة حلب أدنى مستوى للخسائر منذ بدء الحرب لأن تواجدهم في الصفوف الأولى كان الأقل هذه المرة .. وتفسير ذلك وفق متغيرات الخطاب الجهادي الذي يتم تداوله ومناقشته على مستوى القيادات الشرعية هو أن السياسة الجهادية الجديدة تقضي بالتضحية بالعناصر السوريين وتوفير الأرواح المهاجرة لأن قيادات القاعدة والنصرة بعد الانفكاك الصوري ترى أن المهاجرين هم الرجال ذوو الايمان الأقوى والذين يجب الحفاظ عليهم لأنهم الأيمان الاقوى .. ولذا يجب انجاز النصر بمن كان ايمانهم أقل درجة وهم بمرتبة الأنصار .. ومردّ ذلك هو أن فلسفة الجهاد تثمن عاليا تضحيات وأعمال المهاجرين الذين تركوا أموالهم وأزواجهم وأهاليهم من أجل الاسلام .. وهذا يعكس اسلاما والتزاما أقوى واكبر ثوابا من الأنصار الذين لايزالون على ارضهم وبين ذويهم .. فالدعوة الاسلامية المحمدية أنشأها المهاجرون وكل قادة الاسلام كانوا مهاجرين وعلى رأسهم الرسول نفسه والخلفاء الراشدون حتى أن المسلمين الاوائل حسموا مسألة الخلافة لصالح المهاجرين وأخرجوا (سعد بن عبادة) من المنافسة .. ولذلك يجب ان يعز الاسلام بالمهاجرين دوما .. ويبدو أن تغليب العنصر المهاجر في البيئة السورية الجهادية في ادلب وحلب لايمكن أن يكون الا باضعاف العنصر السوري الذي يتناقص ويتراجع لصالح طغيان الصورة المهاجرة في المجتمع .. وبهذا المعنى تتم عملية احلال ذكور مكان ذكور محليين ورجال محل رجال .. يقومون بوراثة العنصر السوري الذي ان مات .. ترك أرضا وبيتا واملاكا وزوجة وبنات وأولادا .. وهؤلاء سيجدون انفسهم أمام مجتمع من المهاجرين يحيط بهم احاطة السوار بالمعصم .. فيتم دمج المجتمع المهاجر بسرعة مع المجتمع الأصلي للسوريين الذي تقل مقاومته حيث يتزوج المهاجرون من نساء الشهداء وبناتهم ويزوجون بناتهم لأبناء القتلى السوريين لتتم عملية دمج وتماسك وزرع للعنصر المهاجر في أرض الشام أرض الجهاد .. وغرس لما يسمى النخيل المهاجر ..
ولكن اذا أخذنا بعين الاعتبار أن من يشرف على نشاط الجماعات المسلحة ويضع الخطط الاستراتيجية والاعلامية هم في المخابرات التركية والسعودية فانه لاشك أن وراء الأكمة ماوراءها .. ولايجب اغفال هذه الملاحظة الاحصائية وتركها أو تفسيرها بسذاجة لأن هذا الموت الكبير وهذه المحرقة المجانية في حلب تميزت أنها لأول مرة غيرت من قواعد توزيع المقاتلين حيث كان المهاجرون يتقدمون الصفوف الأولى لشدة حماسهم واندفاعهم لتحقيق الصدمة في دفاعات العدو ويلحق بهم العنصر السوري في عملية السيطرة والضبط .. وهذا ينبه الى احتمال أن تكون المخابرات التركية تحاول زعزعة التوازن والسكاني في الأرياف الادلبية والحلبية بتدمير شريحة الرجال والشباب والتضحية بهم في محرقة حلب خلال الأسابيع القادمة .. لأن هناك احتمالا لان يتم اتفاق دولي وشيك تكون تركيا طرفا فيه لوضع ضوابط على الحرب السورية تنسجم مع الحل السياسي .. وهذا يعني الاستغناء عن دور المهاجرين الذين وصلوا الى سورية أو لايزالون في تركيا التي تمتلئ بالمهاجرين الذين لن بعودوا الى بلدانهم غالبا كي لاتتكرر تجربة الأفغان العرب الذين فتحت لهم السجون والمعتقلات لدى عودتهم .. وبالطبع فان تركيا لن تبقيهم على أراضيها ويفضل أن يتم دفعهم الى الأرياف السورية وابقاء من وصل منهم الى سورية فيها ريثما يتم انضاج الحل السياسي .. وهذا مايفسر سبب غياب الارشيف السكاني والسجل المدني وكل الوثائق والداتا السكانية والمدنية من محافظة ادلب .. فقد اختفت هذه السجلات بالكامل .. ويعتقد أنها نقلت بكاملها الى تركيا باشراف المخابرات التركية للتلاعب بالجداول والأسماء وتوزيع وثائق مسروقة منها ومنحها للمهاجرين الذي سيتم توطينهم في الأرياف السورية بصفة مواطنين سوريين (بدون وثائق) .. حيث سيكون من الصعب على الحكومة السورية ملاحقة كل الوثائق الضائعة وتدقيق البيانات الا بعد فترة طويلة لاتقل عن 3 سنوات .. وهذا يعني ترسيخ المهاجرين في المجتمع الريفي لادلب وحلب بحيث يصعب اقتلاعها ..
البسطاء من الناس يفهمون دعوة المحيسني للمجاهدين على أنها نفور في سبيل الله ولكن المحيسني يختار الخراف هذه المرة ويبقى العجول والفحول في المؤخرة .. ومعركة حلب التهمت خرافا كثيرة وقرابين .. فيما العجول والفحول تنتظر .. وقد يستيقظ الريف السوري الشمالي بعد معركة حلب ليجد أنه لايشبه نفسه وأن هناك تغييرا طرأ عليه .. ففي الحروب تحدث تغييرات ليس على توزع السكلن بل على أطوالهم وأعمارهم .. فمثلا تسببت حروب نابوليون في فرنسا أن تراجع متوسط طول الرجال الفرنسيين قياسا بالاوروبيين لأن نابوليون جند كل الشباب والرجال الفرنسيين الذين التحقوا به في الجيش ولكنه عند تشكيل الحرس الامبراطوري انتقى طوال القامة ليشكل منهم هذه الفرقة مفخرة الجيش الفرنسي الذي فتح به نابوليون اوروبة .. وقد أبيد هذا الحرس خلال الحروب النابوليونية وخاصة في معركة ووترلو الشهيرة التي كسرت ظهر الفرنسيين .. وكان من آثار ذلك أن نسبة الرجال الفرنسيين طوال القامة قد تراجعت لصالح قصار القامة .. قصار القامة هم من صار يحكم فرنسا وهم الذين جاء منهم فرانسوا هولاند قصير القامة وقليل الهيبة طبعا .. وهذا يدل على أن سلالته لم تكن في الحرس الامبراطوري الذي انقرض ..
ولاندري ماذا سيترتب على تبرع نابوليون المحيسني بالشباب الادلبي والحلبي لمحرقة حلب التي ستحصد خلقا كثيرا حيث اختارهم كحرس امبراطوري لجنّته الموعودة وسيبادون جميعا ..
المحيسني يتبرع لهؤلاء السذج بالحور العين اللواتي (ان بصقن في البحر صار حلوا .. وان قبلن فمك امتلأ عسلا .. وان تعرقن فاح منهن عبير يطوف ويملأ الجنة) .. ثم يقود المحيسني المقاتلين كالخرفان الى المحرقة من أجل حلم مجنون .. هم يموتون ويقتلعون من الحياة ومن أراضيهم وحقولهم .. فيما المحيسني والمهاجرون يتجذرون ويرثون ويملكون الأرض والنسل .. وقد نصل في يوم الى طبقة من "الأدالبة" التركستان والايغور .. ويكون لدينا ادلبي تركستاني .. أو ادلبي قرغيزي .. لأن شباب ادلب ذهبوا في رحلة جماعية كبيرة مع المحيسني الى الجنة للقاء الحوريات ولم يعودوا ..