أمام المقهى في الساحة العامة، وقف المجنون منتصباً وسط قوس كوّنَهُ من تناثر ثيابه التي أفرغها من حقيبته، مُشكّلاً منها ما يُشبه الهياكل الآدمية.
تَحَرَّكَ بثقة مطلقة نحو منبر رسمه في مخيلته.
صمت برهة.
وبعد نظرة متفحصة لكل الوجوه المارة في الساحة، ولمكونات القوس – ثيابه – التي وزعها وفق رؤيته، أشار بيده اليمنى، وبصوت قوي، بعد أن سحب نفساً عميقاً، اتجهت إلى مصدره الجموع المزدحمة في الساحة والمقهى:
أيها الشعب الكريم:
حِرصي الشديد أيقظ خوفي المُتزايد عليكم من تداعيات الأبيضين المسببين للضغط والسُكّر، أعرف:
– ألا حياة لي من دونكم،
– ولا حياة لكم من دوني.
كُلّي ثقة أنكم ستتسابقون إلي كقطع تبديل لي يوم الحاجة، وأعرف أنكم تفتدوني بالغالي والنفيس،ومن هذا المنطلق أصدرت أمري للتقيّد بمضمونه حرفيّاً:
"لن تفرحوا بالحلو والمالح طيلة فترة حكمي".
ما أن أنهى جملته حتى هَزَّ أرجاء المكان صوت تصفيق شديد صدر عن ثيابه، وهو يٌلقي خطبته العصماء:" صرخت "الثياب" بصوت واحد:
" بالضغط والسكر نفديك يا زعيم".
" بالضغط والسكر نفديك يا زعيم".
" بالضغط والسكر نفديك يا زعيم".
إثِرَ التصفيق القوي المترافق مع الهتاف، ارتسمت على ملامحه حالة من نشوة عارمة.
لَوّحَ المجنون بيديه عالياً مهللاً شاكراً بعد تكرار الهتافات.
توقّفَ تصفيق الثياب، عندما بدأ يتفحّص بنظره ملامحهم أثناء ترديدهم للهتاف.
الكل يهتف بقوة وكأنه يرسل له شيفرة الولاء الأبدي المطلق.
رغم تدقيقه في كل الوجوه دون استثناء، لم يلحظ التخاذل حتى في النبرات.
صمتت الجماهير بخشوع الخائفين حين تابع:
ولذا سَأُذَكِرَكُمْ.. إن هناك من يراقب تطبيق أوامري حرفيّاً وعلى مدار الساعة.
عاودت الثياب هتافها:
" بالضغط ..بالسكر ..معك يا زعيم".
" بالضغط ..بالسكر ..معك يا زعيم".
" بالضغط ..بالسكر ..معك يا زعيم".
تصفيق.. أكثر قوة من المرة السابقة،
هذه العبارة أعادت له نشوة الزهو أكثر من سابقتها، وفور إنهاء خطابه، ركضت الثياب بانتظام وهي ترتجف لتدخل في مواقعها المحددة لها في جوف الحقيبة التي صُنِعَت من جلودهم.
دخلت البناطيل في قسم من الحقيبة، والقمصان في قسم ثانٍ، وقسم ثالث للألبسة الداخلية العلوية، ورابع للسفلية، وخامس للطواقي، وسادس للجرابات، تقسيم ممنهج كي يضمن التجزئة وعدم الاتحاد، خشية التآمرعليه لحظة سهو.
بعد أن استدار في كل الاتجاهات ليتأكد بما لا يدع مجالاً للشك من دخول الكل، أغلق كل منافذها بقوة كيلا تخرج أية قطعة منها، ثم جلس عليها آمناً مطمئناً، وكمن يُحدّث ذاته وهو يشير بيده للحقيبة:
"إن لم تضغط عليها بكل ما أوتيت من قوة وعزم ستضيّق عليك وتخنقك".
ومن وقع الثقل الجاثم عليها، وإنفاذاً لرؤية الخطاب وتجسيده قولاً وفعلاً ، بل وخطة عمل حياتية.
سارع الكل لكسب وده ورضاه بأي طريقة طمعاً في فتات فضلات عطاياه.
وفي جلسته بدأت الحقيبة تتحرّك من كل اتجاه، بدأت الأكمام تصفع بقوة لا تُحتَمل:
ظهر وبطن وجوانب القمصان.
ونهايات البناطيل.
ومن ساعتها لم تُغمض "عراوي" القمصان أجفانها، معلنة بدء مرحلة مراقبة كل شاردة وواردة، وبالأخص تحركات الألبسة الداخلية مخافة أن تتواصل أو تتخابر مع الألبسة الخارجية.
وقف المجنون وفتح الحقيبة، الحركة توقفت، كأنهم كأهل الكهف، لا حراك ولا صوت، ولانفس، أخرج من الحقيبة "طاقية" وسألها بصوت خافت:
– كيف الوضع في الداخل.؟!
– احكي بالتفصيل الممل..
– هل هناك من يتحرك تحركات مريبة.؟!
– لا..
– لا.. أبداَ.
اطمئن ..لقد طَلّق "البعوض" إلى غير رجعة، أغلب سُكّان الحقيبة، لم يعد لديه ما يقتات به.
صمتت "الطاقية" للحظات وتابعت:
ما أتمناه يا سيدي أن تأمر بإقامة مباراة كرة قدم على مستوى فِرَقْ الحقيبة، على أن تحمل "كأسها" اسم فخامتك، لنشتت عقولهم كما يشتت لاعب أحول ضربة جزاء، ولينقسم السكان إثر الفوز وينشغلون بأنفسهم، – إن لم تُشغٍلهم شَغَلوك، وأنا سأتكفل بمن يُثير الشغب، لينشغل كل من في الحقيبة بهول الحدث.
ونودع من نحس أن نواياه غير سليمة تجاهك في منتجع لم ولن تمره الشمس.
هَزّ المجنون رأسه موافقاً.
عاود همسه الخفي بعد أن أعجبته فكرتها، أيتها الطاقية:
أنت المسؤولة عن الرأس وما يدور فيه، وعليك مراقبة تحركات – الدماغ – ساكنه المُتْعِبْ، بشكل متواصل لذا قررت:
– فرض إقامته الجبرّية الدائمة في الجمجمة.
– إغلاق كل المنافذ المؤدية إليه.
– قطع خاصية الاستقبال والإرسال عنه، إلا وفق ما أشتهي.
– موافاتي بكل إشارة مقصودة أو غير مقصودة تصدر عنه في لحظتها إياك والتأخير.
انتشت "الطاقية" لحديثه، لأنها غدت مهمة جداً لديه.
أيقظ شرودها الذي حَلّقْ بها في عوالم حلم جميل، سؤاله :
– هل في ذهنك خطة أخرى.؟!
أجابته "الطاقية" على الفور وبثقة زائدة:
– نعم ياسيدي.
– نعم هناك في ذهني أشياء، وأشياء تجعلك ترتاح للأبد "يا سيدي".
وبلمح البصر صعدت "الطاقية" على رأسه وبدأت توشوشه:
ارفع الأسعار بنسبة 50% وأودعها في حسابك خارج حدود الحقيبة، فالزمن غير مضمون ومتقلّب المزاج، وقد تدور عليك الدوائر، لذا تحرّك لا تتوانى.
راق له المقترح فأصدر فرماناً من لحظتها برفعها.
سيدي..
سيدي..
تابع ..
تابع لا صدى لأصوات معترضة في الحقيبة، زدها 100%، على مبدأ لا تؤجل، فالوقت الآن لك، قد لا تضمنه بعد ساعة، فعَمّمَ على الفور فرماناً آخر متضمناً الزيادة؟
لم ينطق الناس، لكن العيون بدأت تهمس همساً خفياً، احتجاجاً على الغلاء وقلة الموارد، هكذا وشت الطاقية له مطالبة إياه بزيادة مقدارها200%، وفي الفرمان الثالث، الذي بدأت الألسن تتكلّم بأصوات مبهمة وغير واضحة، هذه الخطة لم تخطر على بال "إبليس" قال المجنون، ثم اقترحت عليه زيادة 500%، وقتها احتل الضحك الهستيري المتواصل كل سكان الحقيبة، وكأن الضحك سيارة نزلت من طريق جبلي فقدت فراملها المتحكمة بإيقافها، وعل مدار الساعة.
ففي كل زيادة كانت "الطاقية" تنقل بأمانة وبالتفصيل، ما يجري في الحقيبة.
صوت صرخة الحقيبة، شق سكون وهدوء الليل:
يا سيدي.. ارفع الأسعار كما شئت، ففي الحقيبة الكُل يضحك ليل نهار، من الطفل حتى الكهل، وأبشرك حتى الأجنة في الأرحام بدأت ترقص.
ارتسمت على وجهه لحظة زهو أخرى دللت على فرح غير مسبوق.
وقال: ألديكِ أفكار أخرى؟!
أجابت: بثقة العارف:
– نعم ..
– نعم.ِ
ياسيدي:
دع العين اليُمنى تنقل لك ما شاهدته اليُسرى، وأكرمها وانهرها، ودع الأخيرة تفعل ذات الشيء.
لفت انتباه المجنون شخص ذو سحنة غريبة، جالس على كرسي خلف طاولة، على يسار رصيف المقهى، صامت طيلة فترة جلوسه، لكنه يوزّع نظراته بدقة متناهية بين الكتاب الذي يُقَلّب صفحاته ببطء شديد، والساحة والمقهى والناس.
نظراته غريبة عصيّة على الترجمة .
طريقة نظراته المتواصلة لا تفسير لها سوى أنه من مركز عيون متخصص.
مسح الغريب رأسه ووجهه بيديه، وهو يتابع حركة المجنون المثيرة فوق الحقيبة.
تمتم بكلمات خرجت من جوفه وكأنها اختزلت حقيقة صادمة عَمّا التقطه من مشاهدات:
اييييه ..
أدركت الآن الاختلاف الواضح بين عالمين، ففي العالم المتحضّر:
– يشتغلون على بناء الإنسان كي يأخذ دوره في بناء ذاته والمكان.
وفي هذا المكان يبنون ظلاً مهزوزاً، لإنسان محشو بالمخاوف والقلق، لِتُسَهِلَ عليهم سرقته في وضح النهار".
حركات وإيماءات "الغريب" زادت من إثارة انتباه المجنون.
نظرات "الغريب" جعلت المجنون يثب كالملسوع، ويطوف كمكوك الحائك حول الحقيبة أكثر من مرّة، ليتأكد من إغلاقها بإحكام ليطمئن قلبه.
بدأ بالدوران أثناء جلوسه على- الكرسي – الحقيبة في كل اتجاه، حتى غدا كـ"رادار" دائم الدوران، وقتها أطلق "المجنون" العنان لموالٍ يكسر فيه حدّة مخاوفه من جهة، وليفصح عن دواخله من جهة أخرى. وتوجيه رسائل لسكان الحقيبة تبث الرعب والخدر الدائم في مفاصلهم، والوهن في بقايا أصواتهم.
بدأ الشك يتوالد في نفسه بسرعة، أسرع من الشائعات.
ينظر إلى الكتاب الذي يُقلبه "الغريب".
ياالله ما هذه المصيبة؟!
أكثر ما أخشاه في هذا الكون هو الكتاب.
أخشى أن يوقظ سكان الحقيبة، وأن يضعني في دوامة لا قرار لها، ولا قدرة لي على إيقاف زحفها.
بعد ضحكة فلتت منه على عجلٍ،
خَرَجَ صوت من منبره الداخلي:
– من أوصل لك ذلك؟!
– لا تخف..
الكل نيام في الصباح، وفي الليل يتراشقون التهم في الفضاء الالكتروني الذي رُسِمَ على مقاسهم تماماً فالكل أدباء:
شعراء من الطراز الأول لا يُشق لهم غبار، فهم يقرضون مختلف مُسمّيات الشعر قديمه وجديده، وما أنجبته حداثة ما بعد الحداثة، زد على ذلك "الهايكو".
حتى تخال أنهم تفوقوا على شعراء اليابان موطنه الأصلي، حتى أصيبت أغلب المواقع الالكترونية، بغثيان كاد أن يجمد ذواكرها من كثرة الأخطاء الإملائية.
أما فيما يتعلّق في جوانب الإبداع السردي فحَدّثْ ولا حرج، فالسرد لغتهم من المهد إلى اللحد، فكلهم كُتّاب رواية والقصة وأخواتها:
( قصة قصيرة – ق.ق.ج – القصة الومضة ).
لا وكل جوقة باتت تصدر شهادات إبداعية، في مختلف صنوف الأدب.
ضع شكوكك في الخزانة، ونَمْ قرير العين.
الكتاب في هذه الأيام لا يُغري أحداً، اطمئن..ضع رجليك في ماء بارد.
وفي حالة شروده أخذه إليه زهوه مما سمعه، مَرَّ كلب، في الساحة وبدأ يدور حول المجنون ويردد دونما انقطاع:
– عو عو عو
– عو عو عو
– عو عو عو.
أثار النباح نزق المجنون، فمسكه بغفلة أثناء دورانه، وهو يضربه يصرخ:
– من أرسلك ؟!
– أنت ضدي..
– مَنْ عَلّمَكَ كل هذا سيل من سبابك المُعلن.
– عو عو عو
-عو عو عو.
زاد من حِدَة بطشه وزاد النباح حدة:
-عو عو عو.
الكلب للمجنون:
– تًوَقَفْ ..
– تَوَقَفْ..
– لن أسكت، وتذَكّر أن كل من ينبح على شاكلتي لن يرد عليه أحد.
ضحك المجنون الهستيري، شد انتباه كل من في الساحة.
قطع ضحكته، وصمت برهة وهو يجول ببصره في كل اتجاه صارخاً:
وفاء.. وَجَلَدّ اجتمعا بك!!!
ثم استدار مخاطباً الكلب:
– سيكون لك شأن.
– كُلّ ما تشاء.
فتَح حقيبته وأطلقه فيها وفور أغلاقها المحكم، والمدروس والمبرمج والمنهج بعناية وحرفية ومهارة، بدأت جدرانها تتحرّك وكأنها أمواج متلاطمة، ولا سبيل للخروج.
أنهك "الغريب"عصبه البصري، وهو يتنقّل بين مشاهدته لما يدور الساحة تارة، والرد على المحمول، وتصفّح الكتاب والكتابة في أوراقه على الطاولة .
جزء من رواية
*خربشات الهذيان المر
خلف عامر