قصة قصيرة
بيانكا ماضيّة
من خلفِ نظارةٍ سوداءَ راح يحدّثُنا عن إصابتِه في الحرب. شابٌ في العقدِ الثاني من العمرِ، بيدِه سبحةٌ لا للصلاةِ. جلس قبالتَنا وعيونُنا مشدودةٌ إليه. أطبق الصمتُ على القاعة، إذ كان صوتُه وحدَه المسموعَ فيها. أعصابُه كانت باردةً، ولكن أصابعَه كانت تحرك حبّاتِ السبحة. حدثنا عن استشهادِ عناصرِ كتيبتِه بالكامل، عن اختراقِ الرصاصةِ من خلفِ أذنه لتخرجَ بالقربِ من إحدى عينيه، عن هجومِ جبهةِ النصرة على قريته، عن قتلِ أبيه، وفقدانِ أمه وأخويه الصغيرين، عن اسشهادِ بعضِ أقاربه وفقدانِ بعضِهم الآخر..لم يُبقِ له هؤلاء البرابرة التتار الوهابيّون سوى أختِه وأخيه.
عقدت المآسي ألسنتَنا، ورغمَ صقيعِ الأعصابِ الذي تلفّع به ذاك الشاب، كان شعلةَ نارٍ من إرادةٍ وتصميمٍ وقوةٍ، قوةٍ لمتابعةِ الحياةِ نحو الهدف: البحثُ عن المفقودين من أهلِه..
وبعد أن أدخلنا في مشاهدِ المأساة كلَّها، تنحنحنا وسرى فينا دفءُ تلك القوةِ التي كانت تحومُ حولَه.. بادلناه الكلامَ والدعوات، ولأنني رغبتُ في أن أسبرَ شيئاً مما في داخله، سألته عن أكثر المواقف غرابةً تلك التي مرّ بها، أجابني: تلك اللحظةُ التي صمت فيها الإعلامُ عما فعله هؤلاء الكفارُ بأهلِ قريتي!!
في تلك اللحظةِ سرى في مسامِ جسدي صقيعٌ، كان وخزُه كالإبر!