لابد أن الطريق في الخارج تزدرد الأشجار ،كم كنت مولعاً بعدِّها وأعمدة النور….، أظنها الآن تختال بنجاتها من هوايتي الفارغة .
الحافلة تتوقف تعطي فرصة للطريق للتجشّوء.
يستقل الحافلة عطر أعرفه، هذه الرائحة توقظني من شرودي،لها في خبايا اللاوعي عندي مكان، لا يمكن أن تغالطني، هاهي تقتحمني، تنسيني ما يحدث خارج عالمي، يزداد تلبسها بي،تمتزج بخيال ضحكته
ـ(ستعتاد عليها فيما بعد بل ستحبها فالعطر كالنساء ..سرعان ما تتقبلهن) وتعود ضحكته لتذبذب نبضي .
(أتوق لذلك العطر الذي كنت لا أطيقه) قلت له ذات يوم ونحن خلف الأكمة .
(وانا أتوق له …رائحته افضل من وخز البارود هذا )
يهزأ ضاحكاً (تستطيع أن تلتقطه ..أترك لخيالك العنان )…دقائق فقط وإذ بعطره يزورنا يتسلل من ثقوب الذاكرة يدفع القليل من رائحة العشب والكثير من عفن الموت لينعش ما بقي من صمودنا .
وقلت له مرة
(عطرك يذكّرني بمعلّمتي و النرجس وخبز أمي ).
( عطري أصنعه بيدي فأخلط ما اشاء من الطيب لكن خلطتك هذه عصية على إبداعي)
…تعبث الريح بعطره مع تحرك الحافلة ، وأنا اتتبعه بدوران رأسي يموج تيار باذخ يلفني اتشبع به
أصرخ بفرحتي ويقيني …وأمدُّ راحتيَّ لألتقطه .
يهمس في أذني (هذا أنا يا صديقي …قلبك لم يخطئ عطري) .
يسند ذقنه على كتفي يغرزه فيه بدقات متتالية كوجه طفل يغوص في كتف أمّه ثمّ يقبّلني …فأعانقه بيدين راقصتين تنزلقان إلى كتفه ،وتحجمان عن المتابعة.
في حديقة المشفى حيث كانت مقصدنا دون إتفاق مسبق زنّرت خصره بذراعي .
كانت ضحكته ترسم نظاماً منضمّاً نسير وفقها بخطى متناسقة، ونصفع المارّة بها ،نتحدى ذكريات حرب لفظته خارجها بلا يدين ،وبعالم الظلمة رمتني ..
فكنتُ يديّه، وكان عينيّ …