بعد موقعة ميسلون الشهيرة ومقتل وزير الدفاع آنذاك “يوسف العظمة” مع عددٍ من الجنود السوريين، في المعركة ضد استعمار سورية، وَصَل الجنرال الفرنسي “غورو” إلى المنشية في دمشق في تموز 1920، واستَقَلَّ بعد ذلك عربةً تجرّها الخيول، فقام “أبو شكري الطبّاع” وبعض أهلهِ، بِفكِّ جَوادَي المركبة وربطوا أنفسهم مكانها، ليجرّوا بِأجسادِهم مركبة الجنرال الفرنسي المُستَعمِر.
ومن طرَفٍ آخر، من المعروف أن “إبراهيم هنانو” الذي قادَ ثورة سورية ضدّ الإستعمار الفرنسي، كان قد جَمَعَ أثاث بيته وآلاته الزراعية وأحرَقها مُعلناً بذلك بداية الثورة، ضارباً المَثَل بأنّ المجاهد يتخلّى عن جميع أملاكهِ في سبيلِ الثورة.
عندما حوكم “هنانو” وأُعلِنت براءته، ولدى خروجه من السجن، الذي كان على بابه عربة يجرّها حصانان، وما أن ركبها “هنانو” بعد إعلان براءته عام 1921 مع وكيله الأستاذ المحامي “الصقال”، حتى تدفّقت الجماهير كالسيلِ الجارف، وحلّت أربطة الحصانين، وراحت تجرّ العربة – بدلاً عنهما – من السجن حتى وَصَلت إلى دار “هنانو”، في أحد أزقّة “باب جنين”، وكانت النساء يزغردنَ على طول الطريق من السجن إلى الدار، والمئات منهنّ واقفات على أسطح البيوت يُمطرنَ العربة بماءِ الزهر وعطرِ الورد.
إن صورة المناضل المسلم “إبراهيم هنانو” و المحامي المسيحي “فتح الله صقال”، الجالِسَين سويةً في العربة، إختَزلت كل ما يُمكن قوله عن سورية.
تكلّمتُ عن صورتين متشابهتين شكلاً ومختلفتين مضموناً، بين استقبال المستعمِر في الأولى، واستقبال الرمز الوطني في الثانية.
اليوم .. عندما أشاهد أو اقرأ أو أستمع إلى الأخبار، أحزن لوجود صنف من السوريين وقع في فخ الإغراء المادي وحلم اليقظةِ السياسي، فبادرَ إلى فك اللجام عن أحصنة الخيانة وجعل من نفسه مطيّةً يجرُّ عربة الخيانة تجاه بلده.
وليسمحوا لي، فإنني لن أقبل تبريراتهم بأنهم فعلوا ذلك ضد نظامٍ أو أشخاصٍ، لأن أفعالهم أساءت للوطن وللشعبِ البسيط الذي ذاق خيانتهم.
وفي الطرف الثاني، كان هنالك آلاف السوريين الذين جرّوا عربة الوطن من خلال الدماء التي بذلوها على تُرابهِ، وأيضاً لن أقبل المقولات بأن هؤلاء هم من أركان النظام وأنهم من زبانيته.
لقد آلمني أن نَصل الى مرحلة الشماتة.
هل أن ملايين اللاجئين والهاربين من هول الصراع على الأرض السورية والمنتشرين في مناطق أُخرى منها وفي دول الجوار، يستحقون الشماتة؟.
هل الملايين الذين عانوا من خلال الجوع والعطش وأصبحوا محتاجين يقفون على أبواب المنظمات الدولية والجمعيات الخيرية، يبرر ما تدّعونه من محبةٍ لسورية؟
أسمعُ الذين يسبّون ويلعنون ويقولون أن النظام فعل كذا وكذا.
ألم يكونوا يتمرّغون في أحضانهِ ومناصبه، ويضربون بسيفهِ، ويشربون ويأكلون على مائدتهِ؟.
تلك الأسماء التي لمعت في ما يطلقون عليه إسم المعارضة، ألم يكن منهم ماسحينَ لِأحذية ما أصبحوا يسمونه بالنظام وأسمّيه أنا بالجمهورية العربية السورية؟.
هؤلاء اللعّانين والشتّامين، ألم يقرأوا تاريخ الرسول العربي؟.
ألم يُطلب من الرسول محمد صلى الله عليه وآله وسلم أن يدعو على مُضَرَ فجاءَهُ جبرائيل عليه السلام وقال: يا محمد، إن اللهَ لم يبعثك سبّاباً ولا لعَّاناً، وإنما بعثك رحمةً؟.
أصبحت أرقام القتلى على كل مساحة الوطن مخيفة، وقدموا التبريرات بأنهم يقدمون الشعب ذبيحة لتخليصهم من النظام.
ألم يقل السيد المسيح عليه السلام أنه يريد رحمةً لا ذبيحة؟.
اليوم نحن بحاجة الى الرحمة الموجودة في أدبياتنا الدينية والسورية.
اليوم نحن بحاجة الى حوار صادقٍ لبناءِ ما خرّبناه بأيدينا.
بين الوطن والخيانة، ربّاني والدي “إميل” السوري حتى النخاع، بأنني لا أستطيع أن أختار إلا الوطن.
وأنا شخصياً لا أرضى – للجميع – أن يكونوا أحصنة لعربة الخيانة بل لعربة الوطن، كما لا أرضى لجميع السوريين إلا أن يكونوا رحمة لبعضهم وللعالم.
اللهم اشهد اني بلغت