دقائقٌ تفصلُني عنْ إجراءِ جراحةٍ ، وهَا أنا قدْ أفقت يغلبُني الألمُ ، تتكشفُ عيناي الناعستان المكانَ لأجدَ نفسي في حجرةٍ مظلمةٍ إلَّا منْ ضوءٍ هزيلٍ يتمددُ أمامَ أرضيةِ المدخلِ ؛ فقد حلَّ الليلُ باسِطاً سكونَه المطبقَ على مستشفى التأمينِ الصحي ، يتسللُ إليَّ الوعي بتروٍ ؛ فأدركَ ما حولي ، يقابلُ سريري جسدُ أحدِهم يغطًّ في نومٍ عميقٍ مُسجَّى في سكونٍ تامٍ على سريرِه ، يغطي وجهَه ربَّما ليتفادى برودةَ الجوِ ، لم تلحقْه الإفاقةُ بعدْ ، أتمنى أن يفيقَ ليؤنسَ وحشتي في تلك الليلةِ الباردةِ ، تخترقُ أسماعَي أصواتُ أمطارٍ ممزوجةٍ بصوتِ أغصانِ الشجرِ الثائرةِ مع الرياحِ العاصفةِ ، أمنيتي الآنَ أن يظهرَ لي أحدٌ يساعدُني لأغادرَ سريري ؛ لكن من الصعبِ أن تتحققَ ؛ فالوقتُ متأخرٌ ، والأجواءُ لا تشجعُ أحداً أن يغادرَ مكانَه ، أتحاملُ على نفسِي وقد لففت جسدي بالغطاءِ الصوفي ، أسيرُ بتأنٍ فلا ينزعجُ جاري في الحجرةِ ، بخطواتٍ متباطئةٍ أخرجُ لأجدَ العنبرَ خالياً من أي حركةٍ ، تلمحُ عيناي لافتةً متهالكةً تشيرُ إلى دورةِ مياهٍ في اتجاهِ تلك الردهةِ المظلمةِ الممتدةِ ، أتوغلُ فيها يقابلُني بابٌ مغلقٌ ، أجاهدُ فأفتحَه عنوةً ؛ حاجتي لإفراغِ المثانةِ الممتلئةِ تدفعُني غيرَ عابئٍ بآلامِ الجراحةِ والظلامِ الموحشِ ، ألحظُ حجراتٍ مظلمةً قد أوصِدت أبوابُها على جانبي الردهةِ ، فإذا بي أرى نافذةً مفتوحةً في نهايةِ الردهةِ تقفُ على حافتِها خيوطُ ضوءٍ هزيلةٍ ألقتها مصابيحُ الشارعِ المجاورِ ، أتوجهُ إليها ربَّما وجدت دورةَ المياهِ فتزولَ آلامي التي تزدادُ مع برودةِ الردهةِ الشديدةِ ، وما إن وصلت إليها حتى لمحت يسارَها مدخلَ دورةَ المياهِ ، لا أكادُ أرى موضعَ قدمِي ، أتحسسُ الحائطَ بحثًا عنْ مِفتاحِ النورِ فلا تنجحُ محاولتي ، تزدادُ آلامي فلا أعبأ بالظلامِ الدامسِ والسكونِ الرهيبِ ، أشعرُ بدوارٍ فأستندَ إلى البابِ ، وما أن انتهيت حتى شعرت بالراحةِ ، ولكنَّ الدوارَ يكادُ يسقطُني أرضاً ، أجتهدُ وأستديرُ لتقعَ عيناي على عينٍ حمراءٍ تتوهجُ وسطَ الظلامِ المعتمِ ؛ تضطربُ أنفاسي فزعًا ، إنَّها تقتربُ مني أكثرَ فأكثرَ ؛ يكادُ قلبي يتوقفُ رعباً ، حتى أكتشفُ أنَّها مجردَ سيجارةٍ مشتعلةٍ يمسكُ بها بينَ شفتيه رجلٌ طويلُ القامةِ قدْ لفَّ جسدَه بملاءةٍ بيضاءٍ ، يرمقُني بنظرةٍ متفحصةٍ ، تلمعُ عيناه ؛ مما جعلني أنسى الدوارَ وآلامَ الجراحةِ ، فلم أتمكنْ من الصمتِ فقلت بصوتٍ متهدجٍ وقد تعلقت يدي بالبابِ كي لا أسقطُ
- مَنْ ؟!!
يجيبُني في تروٍ بصوتٍ له صدى كمن يتكلمُ من جوفِ بئرٍ
- نزيلٌ بالمستشفى
- أفزعتني يا رجلُ ؛ تقفُ في الظلامِ ، ألَّا تضئ النور َ؟!!
- لم أعثرْ على مِفتاحِ النورِ ، دفعتني الرغبةُ في التدخينِ أن آتي إلى هُنا
وإذا به يترنحُ فجأةً ؛ يمدُّ يديه يستندُ على كتفي ؛ يطلبُ أن يتوكأ على جسدي الواهنِ كي أوصلَه حجرتَه ، فلا أستطيعُ ردَّ طلبِه ، يريحُ ذراعَه على كتفي ، ألفُّ ذراعي على خَاصِرِه ، يتخذُ كلانا الآخرَ مُتكأً ، الرجلُ باردُ الجسدِ وكأنَّه خرج من ثلاجةٍ لتوِه ، تتلمسُ عيناي ملامحَ وجهِه المرهقِ ، ألحظُ أثارَ دماءٍ متجلطةٍ تغطي مُعظمَ وجهِه ؛ ينتابُني القلقُ الممزوجُ بالريبةِ لأمرِ الرجلِ ، ربَّما جاء في حادثٍ لتوِه ولم يتلق عنايةَ أحدِهم حتى الآنَ ، غريبةٌ جداً تلك البرودةُ التي تنبعثُ من جسدِه ، أتلهى عن آلامي بسؤالِه :
- ما جاء بك للمستشفي ؟
- جئت في حادثٍ ، لأجدَ نفسي ها هنا على هذه الحالةِ المترديةِ
- حمدٌ للهِ على سلامتِك .. أنا جئت لإجراءِ جراحةٍ عاجلةٍ
- ها هي حجرتي ، هل ساعدتني حتى أتمددَ على سريرِي ، تتملكُني ألامٌ مبرحةٌ
- أعانني اللهُ وإياك
حجرةُ الرجلِ ليس بها أثرٌ لضوءٍ ، وكأنَّنا في قبرٍ ، يجلسُ الرجلُ على حافةِ سريرِه ، أتراجعُ للخلفِ ممسكاً بعارضةِ السريرِ المعدنيةِ الباردةِ ، تلمحُ عيناي جسداً ساكناً على السريرِ المجاورِ ، فما إن استدرت للرجلِ بوجهِي حتى وجدته ممدداً على سريرِه ، عجبت لسرعةِ نومِه ، انسحبت ببطءٍ شديدٍ ؛ يعاودُني الألمُ والشعورُ بالدوارِ ، أقفُ هنيهةً ؛ تتعودُ عيناي ظلامَ الحجرةِ لأجدَها بلا نوافذٍ ، تلفتُني ورقةٌ مدلاةٌ بخيطٍ مربوطٍ في أُصبعِ قدمِ الرجلِ وقد قُيدَت قدماه لبعضِهما بالشاشِ الأبيضِ ، ألقي بنظرةٍ على وجهِ الرجلِ فأجدَه فاغراً فاه ، أنظرُ إلى جارِه لأجدَه على ذاتِ الحالِ ، قدْ لطخت غطاءه الدماءُ ؛ تتلاحقُ أنفاسي فزعاً ، أحاولُ الخروجَ من الحجرةِ ، فلا أقوى على الإسراعِ ؛ ترتعشُ يداي ، يكادُ قلبي يتوقفُ ، أسرعُ قدرَ طاقتي حتي خرجت من الردهةِ إلي العنبرِ حيثُ الضوءِ الهزيلِ ، أندفعُ نحوَ حجرتي بعدَ أن أدركت أنَّني في مشرحةِ المستشفى ، وجدت رفيقَ الحجرةِ قدْ أفاق يجلسُ على سريرِه في الظلامِ يبادرُني :
- ما بك ؟!
يعجزُ لساني عن الكلامِ ، أستديرُ إليه ، أحاولُ أن أحافظَ على اتزاني ، فإذا به نفسَ الرجلِ فاغراً فاه ، أصرخُ فلا يخرجُ صوتي .
أفتحُ عيني لأجدَ الطبيبَ والممرضةَ بجواري ، تنشرُ الشمسُ ضوءها يملأ أرجاءَ الحجرةِ
- حمدٌ للهِ على سلامتِك .. العمليةُ نجحت .
بقلم #سمير_لوبه
من المجموعة القصصية #كواليس