” افترض، للحظة، ان الراوي الذي يتحدث إليك مجرد وهم. افترض، انني اضطررت لكي يكون التواصل بيننا ممكنا، لخلق إيحاء صدى، صوت، نظرة، هوية مزيفة.
افترض الآن، بالتبعية، ان كل ما يقوله هذا الراوي، كذب محض، بما في ذلك هذه الكلمات ذاتها.
ومع هذا، لنتماد ابعد من ذلك. افترض، ان كل ما قصوه عليك طوال حياتك كذب محض. تاريخ البشرية. مجمل المعرفة الانسانية. الحالة التي عليها الانسان وطريقة تواصله مع العالم.
افترض ان ذكرياتك الخاصة تعرضت للتشويه من قبل عقلك، افترض ان قصة حياتك (التي تختار ان تحكيها لنفسك) تعرضت للتشويه بفعل قصور الذاكرة، وبسبب الاحتياج النفسي للخداع الذاتي وبسبب آليات الدفاع عن الانا الخاصة بك. وبناء عليه، عزيزي القارئ، فإن هويتك انت ايضا مزيفة.
حضرتك، وصوتي وجميع ما بيننا كله كذب. سوف نلتقي من منطلق هذا القبول، فحسب، في المكان المناسب لكي نبدأ تواصلنا. وانطلاقا من هذه المقدمات يمكننا ان نبدأ تحاورنا. لان قصة الانسان ليست اي شيء آخر سوى قصة الوهم”.
بهذه المقدمة المفجعة يفتتح ( خوان خاثينتو موتيوث رنخيل) كتابه الصادم تاريخ الكذب، وهو يستعرض بطريقة دراماتيكية مسار الكذب في كل شيء في هذا الوجود.
خوان الذي يتقصى الكذب في الطبيعة من خلال ما يسميه مخادعة الكائنات لحماية انفسها من الخطر، ويتحول الى الدين، حيث الاساطير ويعرض لما جرى من تحويل آثار المسيح عليه السلام الى مشروع ربحي، فقد بيع كذبا ما يزيد عن حمولة سفينة كبيرة من قطع الاخشاب على انها بقايا خشبة الصلب، وهكذا الحال مع مسامير الصلب الثلاثة التي اصبحت في ظل الكذب آلافا، ويستمر في رحلته حول الكذب، فيناقش الكذب عند الملحدين وفي تكوين المجتمعات، ولعبة السياسة والديمقراطية، وكذب الحروب والتجسس واكاذيب التجارة والاقتصاد.
يقرر خوان ان الكذب يستولي على كل شيء، فيبحث عنه في الادب، والفن ويشير الى اللوحات المزيفة وقصصها المشوقة، وحتى العلم لا يستثنى من هذا الاستقصاء.
الكذب بحسب خوان له وجوده المتأصل في سردية الموت وفي ثنايا الحب: ” ثم، ذات يوم، وسط وهم العالم، وخدع الثقافة، وزخرف المدن، العالقة في فخاخ الكذب، بينما يتزايد إنهاكها اكثر فاكثر من مواصلة المشاركة في المهزلة، وعندما اوشكنا على التخلي عن البحث عن مغزى والاستسلام، وقعنا في الحب”.
يختم خوان نصه المثير بالقول : “ينتابنا بصورة ما شعور، احيانا، انه لطالما كانت تلك الاكاذيب الشيء الوحيد المهم طيلة الوقت. ولطالما كانت الاكاذيب موجودة هنا قبل وجودنا بكثير. ويبدو ان كل هذه الاوهام، تطورت الآن وتواصل طريقها نحو مكان ما. بصورة مستقلة عنا نحن الذين انحدرنا الى وضعية مجرد دعامة.
وهذا ليس سيئا بالضرورة: الافكار تنتشر من خلالنا، ككائنات وهمية، وكأن الافكار هي الكائن الحقيقي. لربما كان الامر كذلك. وربما، بمجرد تجاوز وهم الهوية، فإن الشيء الوحيد الذي يهم هو الافكار التي نتركها وراءنا. وربما يصبح جنسنا البشري، يوما ما، مفيدا في شيء”.
مما شك فيه، ان هذه المقاربة الجريئة والصادمة، التي هزت اركان وجودنا بكل تاريخه المتمادي، وهي تتلمس مواطن الزيف فيه، وكيف ان هذا الزيف والكذب يسري كالزيت دون ان تستطيع ان تقبض على مشهد واضح منه، هي محاولة معرفية مهمة من حيث قدرتها على طرح الاسئلة، وبحثها في المسكوت عنه، وهذا الربط الذي جعل كل ما في الوجود مستجيبا للاشكالية التي اثارها عنوانه المثير لفضول المعرفة، إلا ان (خوان) سكت عن الوجه الآخر للقصة، وهو الوجه الاكثر اهمية، والمتمثل بتاريخ الصدق، فتاريخ الكذب مقترن بتاريخ الصدق، ودواعيه لا يمكن فهمها إلا في ظل فهم محتوى الصدق.
ان نزعات الشك التي تبنتها فلسفات قديمة وحديثة، والتي جاءت على كل شيء، لتحيل الانسان الى حيرة لا متناهية، يدور حول وجوده، دون ان يملك طرفا من خيط الحقيقة، ليخرج من ظلامة الشك الى نور اليقين، تسببت بمآسي مستحكمة ضربت تاريخ البشرية، وقد سوغت آلاف المحن التي عاشتها البشرية دون ان تضع اليد بشكل عادل على مواطن الخلل ومحل المسؤولية.
نعم، الكذب، هو الزلزال الكامن تحت طبقات الوجود، والذي يمكن ان يضرب اي جانب منه، فيحطم كل شيء بعبارة واحدة إلا ان هذا الكذب محاصر بقوة، بجمال الحقيقة وقوة الصدق الذي لا يزال يبث الطمأنينة لعالم يهدده الزيف من كل جهة.
ان هذا النص، يحيلنا بقوة، لتعميق الاسئلة في سردية الصدق والكذب، والوهم والحقيقة، لنستطيع من التمركز في هويتنا عن وعي ورضى.
الصورة لوحة رامبرانت المقلدة..