الحقيبة الخامسة
* بقلم سليم الجابر
لم أعرف لوناً للفرح في مضائق المهاجرة،وفي مقدّمة همّي:الوحدة،فقد طالما شعرت بالعزلة الجارحة،وحين بحثتُ عن أصدقاء يكشفون بعضاً من كثافة ظلمة الحياة التي فُرضت عليّ لم أجد بغيتي تماماً،ماعدا صديقاً جمعني وايّاه،أنّنا من بلدٍ واحد،ومن جيل واحد،ومن بيئة ريفية.
عمل صديقي الأثير من قبل طياراً،ثم حاز لقب مهندس من معاهد الطيران في الولايات المتحدة الأمريكية،من دون أن يعمل بعيداً عن وطننا لكن وبعد التقاعد غرق في لجّة الاغتراب قبل ربع قرن.
أعظم فرحٍ للمرء أن يتدثر بجناح الصداقة،فالعالم جميل وصلب إذا ملئ بصديق طيّب وإذا فُقدهذا الصديق يصبح في الصدر شيء ناقص،حنانٌ أو جدارٌ منيع يقع.
المرء في غياب الصداقة مرميٌّ للريح وذئاب الاكتئاب،انّه عارٍ فوق قمّة ثلج أو في مهمهٍ قفر.
صديقي محمد محمود (أبو لورنس)ذو قامة باسقة كشجر النخيل، لم تحن قامته أحداث ثقيلة عاشها،وهو وسيم الهيئة،لم يهتم قطُّ بلحية مسترسلة أو شارب مفتول،عيناه تلمعان بنوروميضٍ غريب خاطف للقلب تحاكيان عيني نسر نافذ البصر .
وأشعر حين كنت أصافحه بحرارة الصداقةوديمومتها ودفئها.
جلُّ ماكنّا نخشاه معاّ أن يفرّقنا الزمن عنوة،أما حديثه فقداتّسم بالعذوبة واللين،يختار ألفاظه ومفرداته بعناية ،فتغدو مُندّاةً بأدب رفيع،يلوّنها صوتٌ دافئ لايعلو أكثرمما يجب وغالباًما كان يضيع بعضٌ من حديثه،لأنّ صوته لايعلو إلا حين يغضب من نصائحي الجريئة كي يهجر السجائر التي رعت صدره،فكثيراًما كان يغشاه سعالٌ مديد متصل يهزّه بقوةحتى لتحسبه يغفو في إغماءة لبعض الوقت.
ولم ينسَ صديقي (أبو لورنس)أن يسهب في سرد يوميات عمله طياراً مدرباًفي أفضل الأكاديميات،أو مهندساً فنياً لا يستغنى عنه في رحلات الطيران المدني، وفي خلال عمله الفسيح لم يواجه مشكلات لاحلَّ لها بوجوده، ولقد حاز ثناء رؤسائه في العمل، واتسع أفق معرفته من خلال رحيله إلى عديد البلدان مع طيران بلاده أيام ازدهاره.
وأبو لورنس كان دافئ المشاركة والحياة في أسرته، وحين ينفر من سلوك لايرضاه أو رأي يخالفه سرعان مايلجأ إلى عشيرته السيجارة الحاضرة دوماً ،تلك التي أكلت أحشاءه عبر السنين.
أما حرصه على مواصلة صحبه،والتمسك بأهداب الصداقة فيمثلان همه الأول،فكثيراً مايغضّ الطرفَ عن أخطاء العديد منهم،فما عنده فرقٌ بين الموت والحياة من دون الأصدقاء.
وقد امتدّت آصرة الصداقة بيني وبينه سنواتٍ طوالاً لم أشعر يوماً بالاستغناء عن لقائه اليومي حيث نذهب في نزهة المساء إلى مقهى ستارباكس(Stabucks)أو(دينكن) في الحي حتى حال العجز وتوالي الأدواء دون وصولنا إلى هذه الأماكن فأصبحنا نستريح على مقاعدالطريق الخاصةبمواقف الحافلات،والطريف أنّ سائقي(المترو) غدوا يعرفوننا فلا يتوقفون كعادتهم حين يرون انساناً بانتظار هم وبعضهم كان يلوّح لنا بالتحية.اليوم وبعد ثلاثة أشهر الغياب أمرّ بالأمكنة وحيداً،ولا فكاك لي من دمعة تتدحرج من عيني،لكأنّ للأمكنة،مشاعر وإحساساً بأحوال من هجروها.
ظلّ صديقي أبو لورنس يحدثني عن رحلته المأمولة إلى الوطن،إلى سورية القلب، وبالذات إلى (المنيزلة) الضيعة التي تتوسد مرتفعات في قضاء (جبلة) وكان يفصّل القول عن الحقيبة الأولى للورنس وأسرته والتاليةلعاصم وأسرته التي زيّنهافتىً لم يكحّل بعد ناظريه بوجه أبيه الكبير،جدّه الذي لايعود من سفرٍ بعيد سوى مرة في العام أو العامين ،أما الحقيبة الثالثةفهي لابنةٍله وأسرتها والرابعة لأخته التي تنعشها زيارته وتبعث في قلبها فرحاًعميقاً.
هذه التفصيلات لم يكن يرويها أبو لورنس على مسمعي جافّةًلا ماء فيها بل كانت مرطّبة بحنوّ أبٍ ولهفة مشتاقٍ أثير.وغالباً ماكان دمعٌ سخيٌّ حارٌّ يبلل وجنتيه.
والحقيقة أنّني كنت أغبطه على نيّته واعتزامه السفر على الرغم من شكي بأنّ جسده قد لايقوى على تحمّل وعثائه.
وصديقي يرفع راحتيه بالتحية إلى سنّ الثمانين وقد حاول مراراً وتكراراً أن يخفي ذلك ليبقى متدثراً برداء واحدة من سنوات السبعينيات الخمس المستعملة،ويضرب صفحاً بسنة الميلاد الموثّقة في بطاقته(Id).
وقد اطمأننتُ على وصوله بالسلامة مع ابنه الصديق المحبوب،وتحقّق حلمه بحلاوة اللقيا مع أحبته كلّهم وبخاصّة أنّ الحقائب الأربع قد حملت لهم مع الشوق والمحبة مايسرّ الخاطر.
وقد طالما ذهب تفكيري بعيداًبأنّ الحقيبة الأهم والأغلى والأثيرة عندي هي الحقيبة الخامسة التي رجوتُ أن تعود عودةً ميمونةصحبة صديقي أبي لورنس بعد شهر من رحلته اليتيمةولكن الريح هبت عاصفةعلى قلبي حين قيل لي صديقك،حبيبك، رفيق غربتك … بقي هناك بين شعاب (المنيزلة) إلى جوار أحبته وأهليه الراحلين.
تبّت حياةٌ لا يحصد المرءُ في نهايتها غير الموت والألم!
وارحمتا لقلبي فيما أنا فيه!
أمرّ اليوم بالأماكن التي شهدت جلساتنا المشتركة فلا أجد القدرة على الالتفات ثم أنثني عائداً وحيداً ولم أعد أسمع أيّ تفصيل عن الحقائب!
كاليفورنيا٢١/١/٢٠٢٤سليم الجابر.٨
# عن صفحة الكاتب