محمد حمدان
(نص من ثمانينيات القرن الماضي — بعد الاجتياح)
هذا أوان ُ الحزن ِ
فابكي القيدَ والقوس َ المعطل َ والخطب ْ
لاوقت َ إلا للبكاء ْ
هجرت ْ أحبتَها النهارات ُ المليئةُ بالوعود ِ
السنديان ُ…الحلم ُ
يبكون البلاد َ من الوريد ِ إلى الوريد ْ
هذا أوان ُ الحزن ِ فابكوا
لاماء في بيروت َ
في كل السواحل ِ
جفت الأنهار والطرقات ُ
والخيل الأصائل بخرتها العاصفه ْ
فارسل ْ دموعك بالبريد ِ
ليشرب َ الأطفال في بيروت َ
والجبل ُ العنيد ُ
وموسم ُ الكفن ِ الجنوبي ُّ الشهيد ْ
الحزن ُ…وقت ُ الحزن ِ هذا
لاالرمل ُ يصحو
لا…ولا الصحراء ُ تنفض ُ عن جناحيها غبار الذل ِّ
لاالأنهار تغضب ُ
لا…ولا سيف ٌ يفارق غمده ُ
فالعيس ُ يقتلها الظما
( والماء فوق ظهورها محمول ُ)
والخالدون : القمع ..حزن ُ الأرض ِ..والتعليل ُ
******
ربحت قصائدنا المعارك َ
والسيوف ُ أماتها صدأ السنين ُ
علمت ُ طفلي ان يقدم دمعه للوافدين َ
وأن يطأطأ رأسه للوافدين ْ
فالتمر ضاع َ
وضاع َ ماحلبته ُ نوق الشمس ِ ..ضاع ْ
لم يبق َ في طبق ِ النحاس سوى الدموع ِ
سوى البكاء ْ
كرهت مقاهينا نواح المترفين ْ
كفرت بتنهيداتنا
ملَّت ْمقاعدُها الأنين ْ
والصيف ُ في بيروت َ جمر ُ
والصيف ُ في كل القرى مذياع َ أخبار ٍ
يلوك ُ قذى الولائم : ( لن يمروا)
مرُّوا…
تهود قبلها الاردن ُّ إلا في جرائدنا
وفي بث ِّ الإذاعات التي صدئت بها الأقوال ُ
والصور ُ الهزيله ْ
مروا وحق ِّ الصيف ِ مروا
والصيف ُ في بيروت َ جمر ُ
والصيف في كل العواصم ورقة ُ التوت ِ
التي نبتت ُ على مستنقع التهريج ِ
واذلاه..واذلاه.. مروا
*******
المهر يكبو مرة ً
والسنديان ُ يموت منتصباً
وبغل ُ الجر ِّ بعد َ الألف ِ يرفس ُ ضاربيه ِ
وأمتي….
نحفو شواربنا
ونغسل ُ فعل سادتنا الشيوخ ِ
ونصنع الحلوى
ونبكي
*******
في الشرق ِ ظاهرة ٌ محيِّرة ٌ غريبه ْ
في الشرق ِ مخلوق ٌ
له أذنان ِ..أطراف ٌ …وشعر تحت إبطيه ِ
ورأي أصلع ٌ..رأس ٌ بلا مخ ٍّ
وأسنان ٌ تحب المضغ َ..مثل ُ العنز ِ يحمل مُديَته ْ
إحساسه ُ سيل ُ البلاهة ِ والخضوع ْ
في الشرق ِ شكل ٌ آدمي ٌّ
قيل : من نسل السلالات التي انقرضت ْ
كناقة ِ صالح ٍ أو قوم لوط ْ
يتجمع الآلاف ُ منهم في وجوه ِالاندهاش ِ
أمام مذبحة ِ الهنود الحمر ِ
لايدرون أنهم الهنود ُ الحمر ُ في هذا الزمان ْ
ياقوم َ عاد ْ:
الآن َ قد حمي الوطيس ُ
وألف ُ موت ٍ فادحٍ خير ٌ من اليأس ِ العقيم ْ
هي آخر الصرخات ِ قبل هدير ِ زوبعة ِ الشتاء ْ
هي خطوة ٌ للخلف ِ واحدة ٌ وتنسدل ُ الستاره ْ
هي طعنة ٌ أخرى وحد ُّ النصل ِ يعبر في الدروب
الى الطراوه ْ
فتقدموا…فتقدموا
*******
لاصيف َ في بيروت َ غير ُ الدمع ِ والدم ِ
والأرامل ِ والقنابل ِ والضحايا
بيروت ُ … يابيروت ُ
ياوطناً يلخص ُ محنة َ البرقوق ِ والزيتون ِ والنخل ِ
بيروت ُ تختصر الطريق َ
من المحيط الى الخليج ِ
من الشمال الى الجنوب ِ
فخارج ٌ منها إلى لغة الكلام ِ
وآخر ٌ في جلدها ينمو على وهج ٍ وطل ِّ
بيروت ُ وشم ُ
بيروت ُ هم ُّ
بيروت خارجة على خط الفنادق ِ
للخنادق والمطارق ْ
بيروت شرنقة ُ البراءة ِ
عمَّدت ْ أحلامها بالنار قبل ربيعها العشرين ِ
فاحترقت ْ فراشات ُ الصباح ْ
موسوعة النكبات ِ — ساحرة ُ المساء تقول ُ —
تنتظر ُ الحروف َ
فقد فَدَت ْ بيروت ُ حرف َ الباء ِ
يامدن َ الحروف ِ تقدمي للذبح ِ
حتى تغسلي ليل َ الدماء ْ
كي يشرق الفجر الجديد ُ
على ربا كوفية ِ الفقراء ْ
*******
مجنونة ٌ بيروت ُ
فالكفن الفلسطيني ُّ لما يَبْل َ
والعرب الكبار ُ لتوِّهم عادوا
وقد قرأوا على الموتى صلاة الغائبين َ
وزيَّنوا دعواتهم بالفاتحه ْ
الرأي ليس بالرتجال ْ
هلَّا انتظرت ِ
لكي يمر َّ على الذرا النسيان ُ
حتى يهضمَ الرمل ُ الفجائع َ
أربعين ُ القدس ِ والجولان ِ لما يمض ِ يابيروت ُ
يابيروت ُ يامجنونة ً ماتت ْ
وارصدة ُ الكبار ِ زكاتها جفَّت ْ
وقد تعبوا
وقد ناموا
ومصحفهم تجمَّد َ ماعدا سور النساء ويوسف ٍ
والعنكبوت ْ
بيروت ُ من يأتيك ِ بالأكفان ِ
موج القمع ِ يمنع عنك يابيوت ُ أفواج َ اللهب ْ
تبَّت ْ يد ُ الخطباء في الفلوات ِ
والبترول ُ يدفئهم وتب ْ
بيروت ُ يامجنونة ً ماتت ْ
ولم تصبر ْ لكي يستيقظ العرب الكبار ُ فيدفنوها
فاتركوها…
قد ترى في غيرنا جارا ً كجار أبي دؤاد ْ
*********
ياأيها العرب القداميس ُ الكبار ْ
ياسادة َالتطريز ِ بالأحزان ِ
والقبو ِ المزركش ِ بالرطوبه ْ
فرسانكم ياسادتي في عتمة ِ الأكواخ ِ
أسمع ُ من فَرَس ْ
ياكارهي العشق َ..والتاريخَ.. والأنهار َ
والفقراء َ..والوطن َ المطالب بالجهاد ْ
مابال ُ كلِّ جيوشكم
جعلت ْ حديد َ دروعها في ظهرها
تركت ْ بأمركم ُ مسالحها
لتشهد َ ضحكة َ الفطيون ِ يفتضُّ البكارات ِ الحزينه ْ
هي حفلة ٌ للجنس والعري ِ الرخيص ِ
على عمائمنا تقام ُ..على جماجمنا
ونحن الراقصون الشاهرون سيوفنا
في وجه حرف ٍ
لم يدبِّج خطبة ً عصماء َ في شرف القبيله ْ
********
طوَّفت ُ في كل الجهات ِ
غدوت ُ في كل البحار ِ
طرقت أبواب الموانئ والغيوم السود ِ
والصخر ِ الأصم ِّ
زرعت ُ في كل الدروب ِ سؤال َ من ماتوا :
“لماذا؟”
وسؤال َ أطفالي : لماذا ؟
وسؤال َ من وقفت بوجه سيوفهم ْ
جدران ُ مبكانا : لماذا؟
وسؤال ُ أيتام ِ الرمال السمر ِ
والأيدي المقطعة ِ المدماة ِالأصابع ِ والسواعد ِ
والرؤوس ِ عيونها سُملت ْ على أيدي
الأشقاء ِ الذين توضؤوا بدمي : لماذا ؟
وتواطؤوا ضدي : لماذا ؟
وتزينوا بالسيف في بيتي : لماذا؟
وتجملوا بالصبر في يافا : لماذا ؟
بالبطش عُمِّدت ِ المعاول ُ والفؤوس ُ
على امتداد الجرح في وطني : لماذا؟
طُعنت ْ فقبَّلت ِ الحذاء َ ولم تمزِّقْه ُ وصاحبَه ُ: لماذا؟
يسقوننا الزقوم َ
والأرماح ُ تركع في صوامعهم ْ
ولا نستلُّها أبداً : لماذا ؟
ياعارنا الأبدي َّ في بيروت َ
في صبرا وشاتيلا : لماذا؟
ياجبننا الأبدي َّ في كل المزارع والمداشر والقرى
في كل أقبية الصفيح ِ
وفي جحور النمل ِ
في خطواتنا للخلف مسرعة ً: لماذا؟
ياجوعنا أزمنت َ
والصحراء ُ تحملها أكف ُّ النفط ِ
تسرقها المحيطات ُ البعيدة ُ من أيادينا : لماذا؟
— مات الدم ُ العربي ُّ في جسدي
— كذبت َ
— فليس في جسدي دم ٌ من اي صنف ٍ
ليس في جسدي سوى الرهبه ْ
كل الدم ِ العربي ِّ في عرق المقاتل ِ
في شموخ الرفض مسجوناً
وقلب ِ المنتحر ْ
********
ياأيها الحزن الذي يجري على خد ِّ العروبة دمعة ً
في الشام ، في البحرين ، في اوراس َ، في رمل ِ
العيون ْ
وحِّد ْ خطاك ْ
والصبح ِ نحن معاً على درب المسالح والمذابح ْ
الأرض ُ نرويها فتنبت ُ غيرنا
اليسف نسقيه فيصبح قاطعاً
واجرف ْ جذور َ أرائك ِ الأبنوس ِ
يجلس فوقها كسرى غلافأ ضاحكاً أو صورةً ذكرى
باب التعجب كان أول نحونا
فلنجعل ِالباب الذي نلج الحياةَ به التعجُّب َوالسؤال ْ
فالفعل َ والتمييز َوالقسم َ المنوَّن َ :
سوف نصنع صبحنا خبراً وتوكيداً وحال ْ
هي دعوة عجلى لنرأب َ صدع َماضينا ونمضي
هي دعوة ٌ لنوحد َالطرقات ِ والصرخات ِ
والأمل َ المعذَّب َ والجراح ْ
هي دعوة ٌ لنقيم َ آلاف َ الجسور ِ
لكي نشق َّ الأقنية ْ
********
في الشرق إنسان يقاوم ألف َ ماركة ٍ من الطغيان ِ
تلبس ألفَ وجه ٍ..ألف َ ثوب ٍ..ألف َ نعل ٍ
في دروب البيت ِ..في الأبواب والشرفات ِ
في عمق ِ الجهات ِ العشر ِ
خلف َ أرائك ِ البلوط ِ
في مستودعات ِ الغاز ِ
في كل البيادر والمواسم ِ والفصول ْ
في الشرق ِظاهرة ٌ تشق ُّ الغيم َنحو الشمس ِ في
وَضَح ِ النهار ْ
ياأيها الوطن ُ الكبير ْ
الحية ُ الرقطاء ُ لن تلد َ الحمائم َ والنسور ْ
فعلام َ يخدعك َ الكبار ْ ؟
وإلى متى تبقى أسيرا ً في عصور الانكسار ْ ؟
********
وتقول فاطمة الصغيرة ُ للمثنى الطفل ِ مولود ِ
الحيل ِ
أبوه ُ في الأغوار ِ مات َ
أخوه ُ قاتل َ في الجنوب ِ
وأخته ُ عطشت كثيراً في الحصار ْ :
أتحبني ؟
هل يستطيع النخل ُأن يبقى بعيداً عن عناق النور ِ ؟
هل تنمو الجذور ُ بغير حبات ِ الرمال ْ ؟
كوفية ُ الفقراء ِ سوف تعود ُ يابيروت ُ
والسفر — الزيارة ُ لن يطول ْ
كوفية ُ الفقاء ِ لم تهجرك ِ
وهج شراعها يمتدُّ
تملأ جعبة َالبارود ِ
هدنتها على دَخَن ٍ
وموعدها المدائن ُ مع صلاة السيف ِ
تحت الرغوة ِ اللبن ُ الصريح ُ
تعود تحملها الأكف ُّ إلى الجنوب ِ
تهزُّ خرنوب َ الجهات ِ: إلى الجنوب ِ
يردِّد ُ الوادي
وبلقيس ُ العواصم ِ ترتدي كوفية َ الفرح ِ الكبير ِ:
إلى الجنوب ِ
إلى الجنوب ِ
إلى الجنوب ْ
**********
الدار البيضاء 1983/1982
٦٧