حين تغدو عبارة «ذبحناهم من الوريد الى الوريد»، وامام الكاميرا، كما لو ان احدهم يدعو الآخر الى كأس من النبيذ…
حدث هذا في كل مكان. اخيرا في عدرة. جمعوا الدروز والعلويين (هل استثنوا المسيحيين ام لا يوجد مسيحيون هناك؟) وذبحوهم من الوريد الى الوريد. بدا الاغتباط على وجوههم وهم يقومون بتلك المهمة الالهية. وصرخوا «الله اكبر». هل كان الله حقا هناك؟
اذاً، لنكن مع الكاتب المسرحي الصومالي احمد هيلالي الذي قدم اقتراحا فذا الى الله لكي يغسل يديه من تلك المخلوقات «من فضلك قل لنا انك اقفلت ابواب الجنة، والى الابد، ولكن اياك ان تقفل ابواب جهنم، والى الابد…».
حتماً ستتوقف تلك الهيستيريا، ويسدل الستار على مهرجان الجثث مادام الذبح هو الطريق الى حوريات العين. هل كان من الضروري اغراءنا الى هذا الحد لنكون بشرا اسوياء؟
حتى اشعار اخر، نحن ننفذ بالسواطير وبالفتاوى رغبة الله. هذا ليس بالامر المستجد، ومنذ ايام الاسلام الاولى، استخدمت النصوص كما عربات الموتى. ألهذا قال هنري كيسنجر ان ازمة الشرق الاوسط ولدت عندما ولد الله وتموت عندما يموت الله؟
ضمناً كان يقول ألا حل بشري لهذه الازمة التي تفوقت على فرائز كافكا في تلك المقاربة السوداوية للعالم وحيث «زغردة القبور». ألا تزغرد القبور عندنا؟ اسقف جليل يقول لنا «هي اللوثة التلمودية يا صاحبي». كلنا، ودون استثناء، نرقص عراة، ومجانين،وقتلة، حول..حائط المبكى!
اجل لا جديد، أي ايديولوجيا تلك التي تطلق العنان لذلك الفقه الذي يتقيأ الموتى؟ عدنا الى تراثنا البهي، ووجدنا ان الفقه التكفيري لا يقتصر على مذهب دون آخر. عبد الوهاب المؤدب اتهمنا باغتيال الله. ألا يحدث هذا ، حقا، عندما نغتال النصوص؟
رائع كان عالم الاجتماع الفرنسي بيار بورديو عندما اعتبر ان وقف سيطرة الكنيسة على الدولة حرر الكائن البشري من الاقامة الجبرية في العالم الآخر. كما لو انه يصف حالنا. نحن عالقون في ذلك «البرزخ» الذي يفصل بين الدنيا و الآخرة. ربما لسنا مسؤولين عن ازمتنا. ان تكون ايدينا، اصواتنا، احاسيسنا، ملطخة بالدم..
مهرجان الجثث ام مهرجان البرابرة؟ يسخر جان دانيال، حتى وهو يتأمل او ينتظر ساعة النهاية، من الذين يستخدمون الآن مفردات مثل «الصوملة» او «الافغنة» او «العرقنة». انه كاتب سياسي، وليس مؤرخا، لكنه رجل الثقافة الشاسعة الذي يقول عنا «هم يظنون انهم في قبضة الله، لكنهم، فعلا، في قبضة التاريخ الذي غالبا ما يدار من قبل الشيطان».
استطرادا، منذ الايام الاولى للاسلام، والعرب ذهبوا بعيداً في فقه البادية، ولنقل دون وجل الفقه الوثني، بل والفقه التلمودي، حيث الآخر هو القاتل او القتيل. اخيرا، هابيل الذي يسقط ارضا. كاد تيار دوشاردان يقول هذه هي الخطيئة الاصلية. لم يسأل لماذا لم يمنع الله ذلك. لكن الثابت ان حجر قايين كان ناطقاً بالعربية. انظروا..
بفظاظة ام بواقعية قال روبرت كاغان «هذه هي معتقداتهم، وهذه هي طقوسهم. انهم يفهمون الله هكذا، ولولانا لتحولوا الى حطام». اذاً، الاميركيون يغسلون ايديهم. لم يخترعوا اسامة بن لادن، ولا الملاّ عمر، ولم يوقظوا الفتنة في العراق عود ثقاب وراء عود ثقاب. لكننا نكاد نصدقهم. هل كان الاميركيون بيننا في تلك القرون الغابرة عندما ازدهر الفقه التكفيري عند عموم المسلمين، وكانوا يطاردون بعضهم البعض بالسيوف وبالخناجر، واحيانا بالحجارة، ودائما تحت عباءة الله؟
قلنا «مهرجان البرابرة». لننظر ماذا حل بسوريا. كل البرابرة ومن كل اصقاع الارض لم يأتوا عشوائيا الى هنا. بالفقه التلمودي إياها نشطت دول وانظمة، ونشط اثرياء ومعوزون. بطبيعة الحال، هذا زمن اهل الفقه لاستنفار كل ذلك الاحتياطي الغرائزي وتوظيفه على الارض السورية، ودون كلل. لا احد يسأل الى اين؟
لا يمكن لاي كائن بشري الا ان يكون ضد القمع في سوريا، وضد الاستئثار، وضد كل مثالب النظام الذي يفترض اعادة هيكلته فلسفيا واخلاقيا، ثقافيا واقتصاديا بطبيعة الحال، ولكن هل الذين يدفعون باولئك البرابرة هم المثال الذي يحتذى في الديمقراطية وفي العدالة، وحيث المواطن ليس اكثر من رهينة في يد شيخ القبيلة، والآن رهينة في يد شيخ الطريقة…
وهل الامارات التي يقيمونها على الارض، ولاهل الارض، تليق حتى بالقردة؟ اي نظام ذاك وماذا بقي منه لكي تدفع سوريا ويدفع السوريون كل ذلك الدم؟ لنتأمل جيدا في وجوهنا، هل هي وجوه بشرية حقا؟
المثير ان الذين يتولون تسويق البرابرة مازالوا على اصرارهم في الذهاب بالمعركة الى نهايتها. معركة ضد من؟ تعليق مؤثر لديفيد هيرست «…لكأنها جمهورية العدم».
اجل، ماذا بقي من سوريا، وماذا بقي من السوريين الذين يقتلهم صقيع العقل، وصقيع الضمير، بل وصقيع الايديولوجيا، بل وصقيع التاريخ، قبل ان يقتلهم، ويذلهم، صقيع الطبيعة الذي هو اكثر حنواً بكثير. اي شمس ستشرق في سوريا بعد الآن؟ عودة اخرى، واخرى، لكافكا الذي كان يستقبل الشمس عند باب المقبرة.
تلك الصرخة الجميلة التي وئدت. نحن مجتمعات وانظمة (اجل تلك الانظمة التي تخجل منها القرون الوسطى) هي التي تنتج البرابرة، وستظل تنتجهم. ليقل لنا احدكم، ايها السادة، متى يوم القيامة. من زمان ونحن نطرق باب العالم الآخر. لا جواب…