نعمه العبادي
تعد الأحلام احد اكثر الفعاليات الانسانية بساطة من حيث الحدوث والتحقق، وأعقدها وأعمقها سراً من حيث تفسير وفهم ما ورائيات وجودها وأسبابها وأهدافها وخصائصها وكل ما يتصل بها.
حلم الانسان القديم والمعاصر، وانسان البراري والمدن، وحلم الرجال والنساء، الفقراء والاغنياء، الكبار والصغار، العقلاء والمجانين، العلماء والجهلاء، القساة والطيبون، المنضبطون والعبثيون، المرفهون والمتعبون، حلم الجنود في الحرب، والملوك على عروش السلطة، والعشاق في ليالي شغفهم، والتائهون في دروب الظلام، حلم الناس في الصيف والشتاء، وفي الاكواخ والقصور، حلموا بالاحياء والاموات، بالمقربين والبعداء، بما يحبون وبما لا يحبون، بما يدركون تفاصيله وبما لا يدركون، وقد تذكروا بعض من أحلامهم ونسوا الكثير.
كانت الاحلام محل اهتمام الملوك والفلاسفة والشعراء وعامة الناس، وقد اشتغلت عليها عدة حقول في مقدمتها الحقول الطبية خصوصا المعنية منها في المجال العصبي والنفسي، كما تحدثت عنها الفلسفة وعلم الاجتماع، وعبر عليها علم السياسة والاجتماع والادب واللغة والفن، وانجزت بشأنها آلاف البحوث إلا انها لا تزال لغزاً معقداً، وطلسماً لم تفك أسراره رغم ان الناس لا يلتفتون لذلك، فهم يحلمون في كل يوم دون بذل أي جهد أو عناية، ففي كل نوم ما لا نهاية من الاحلام التي تمر على اصحابها وبمضامين مختلفة.
لماذا نحلم، وما هي ضرورة الاحلام لحياتنا، وهل يمكن تصور الحياة بدون أحلام، وما هو الاثر الحقيقي الذي تستهدفه الاحلام في حياة الافراد والمجتمعات، وهل هناك سبيل لتقييد الاحلام بحيث نستطيع التحكم بمجيئها من عدمه، او التصرف بمضمونها، وهل لإرادة الفرد دورا في مضمونها أم انها مفروضة عليه قهرية الوقوع، ولماذا لم تتطور في صيغتها، وظلت على ذات الكيفية منذ فجر الانسانية وليومنا هذا، ولماذا لا تستغرق إلا القليل من الوقت رغم انها تتحدث عن احداث طويلة، وكيف تستطيع جمع الاموات والاحياء في لحظة واحدة، وكيف تجلب لنا من لا نعرفهم دونما جهد او عناء، ولماذا تختلف رموزها ومداليها، ولماذا نتذكر بعض وننسى الكثير، ولماذا يتكرر حلم بعينه ويغيب حلم نراه مرة واحدة في حياتنا، لماذا يحلم بعض الناس بشكل متكرر ولا يحلم آخرون إلا نادرا، فهيتفرحنا وتحزننا الاحلام، ولماذا اقترنت بالنوم، ومن هو وعاء الآخر، هل النوم وعائها أم هي وعائه، وهل من قواعد يمكن الركون إليها لفهم الاحلام ومضامينها، وهل من سبيل للتحكم بنوع احلامنا؟
آلاف الاسئلة المعقدة والصعبة واللامتناهية التي لا توجد لها أجوبة شافية كافية قائمة على معرفة حقيقية، ويظل معظم ما قيل فيها وعنها حتى من اهل الاختصاص، بل من كبار ممتن كتبوا عنها مجرد احتمالات ناقصة، ومعارف ظنية، وتخرصات لا يمكن الركون إليها.
ورد في المأثور: (الاحلام ثلاث بشارة من الله أو إغواء من الشيطان أو ما تفكره فيه في النهار يأتيك في الليل)، و(الرؤية الصادقة جزء من أربعين جزء من النبوة)، وقيل عنها الكثير إلا ان معظم اسئلتها ظلت مفتوحة وتتزايد مع كل لحظة تأمل عميقة في هذا السر العجيب.
وعلى الرغم من كل ما ذكرناه إلا ان المؤكد عندي، ان الاحلام بمثابة رئة اضافية تساعد الانسانية على التنفس حينما يسد الواقع بظلامه وقسوته منافذ الهواء الطبيعية، ولولاها لكانت الحياة أكثر من جحيم، ولا يمكن تصور الدنيا بدونها، وكما انها تنزل علينا دون ان يكون لنا إي تدخل او تصرف في وحيها ومضمونها وتوقيتها فإن لدينا قدرة مرنة في تخليق احلام من نسجنا وبإخراجنا وبالكيفية التي نريد، وهذه الاخيرة لا تقل اهميتها عن الاولى، بل هي اكثر اهمية منها، لانها تمنح الانسان امكانية غير مشروطة بشرائط الإمكانات الواقعية، ومعها يستطيع صاحبها ببساطة التصرف في الماضي والحاضر والمستقبل، إذ يستطيع منشأها التعالي على الواقع، والانفصال من الحاضر، واستباق المستقبل، والتصرف بمجاري الامور، ويمكن ان يتخذها بمثابة خريطة طريق يقيم خطواته بإتجاهها.
لا علاقة للاحلام بالنضوج المعرفي، وترتبط بشكل معقد بالنضوج الوجداني، ومع انها نازلة مفروضة إلا ان هناك مقدمات يمكن ان تعدل من مسارها، بل تحولها من فعل منفصل عن الذات إلى خطوة في تكاملها العميق، وقد تتضمن دفعة في الكمالات لا تحققها آلاف الصفحات من الكتب ولا آلاف الفعاليات الاخرى.
لا توجد رموز ثابتة في دلالتها، وكل ما يتم تداوله من تفاسير معهودة ومجربة غير معرفي ولا دقة له، بل هي تجربة شخصية فريدة مختصة بالفرد ذاته واللحظة ذاتها، فتكرر حلم معين على شخص معين لا يعني المضمون نفسه والدلالة ذاتها في كلا المرتين، كما ان معاني الرموز مختلفة من زمن لزمن ومن بيئة لأخرى ومن عمر لعمر ومن ثقافة لثقافة ومن موضوع لآخر.
مازال الناس ينامون فإنهم سيحلمون، وما زالوا يحلمون فإن ذواتهم مرتبطة بمديات هي أبعد من الزمان والمكان المنظور من قبلهم والمحسوس حولهم.
ستبقى الاحلام أكسير الصبر الذي يضمد جروح الفقراء والمحرومين، وصوت الرعب الذي يقض الطغاة والظالمين، ومشعل الجنون الذي يزيد العشاق هياماً في دروب الحب، والاحجية التي تستفز تفكير الفلاسفة، والوحي الذي يساعد في ولادة قصيدة مميزة ولوحة فريدة، والملاذ الذي نهرب إليه لننفصل من جغرافية الواقع القاسية، والملهم الذي يمد الساعون بطاقة دافعة تعينهم على تحقيق أهدافهم.