د.نعمه العبادي
تمثل الصورة الحقيقية لحدود ودوافع وآثار وواقع العلاقة مع أمريكا أهم الاشكاليات العراقية التي لم يتم حسمها بشكل واضح وصريح من قبل طرفي العلاقة منذ أكثر من عقد ونصف، فغير صورة الاحتلال التي أعلنتها أمريكا رسمياً بعد دخولها العراق، لم يتم تعريف هذه العلاقة بشكل واضح، وظلت الحالة الضبابية، والصورة الملتبسة، تغذي مختلف المشاكل والصراعات والاشكاليات، بل يراها البعض انها السبب الرئيس وراء كل ما يحصل في العراق.
يتحرك الطرف الأمريكي على منزلقة الانخراط في العراق بطريقة مضطربة وإنتقائية، فتارة يظهر عبر (القول والفعل) هو المسؤول المباشر، والفاعل الاوحد في صناعة الاحداث، ويصر على هذا الانخراط العميق ويبرره بذرائع مختلفة، فيما يعود ويتصرف كالمتفرج في اوقات اخرى، ويشعر العالم بزهده الواضح تجاه العراق، كما، ان الوكالات الحكومية الامريكية، والاطراف المعنية بملف العراق، تتحرك بطريقة مضطربة (ظاهراً) ، فمرة تظهر وكأنها تتبادل ادوار منظمة فيما بينها، ومرة تظهر وكأنها تتضارب وتتقاطع مع بعضها في طريقتها لإدارة الملف العراقي، الامر الذي يزيد التشويش حول صورة هذه العلاقة، ومنطلقاتها، وتقدير المصالح المتأتية من ورائها، وحقيقة التوجهات الامريكية تجاهها، وهل ان هناك وضوح في (العقل الامريكي الحكومي) لمسار هذه العلاقة ومستقبلها، وإلى اي مدى يعني العراق للامريكان أولوية وأهمية؟
على الجانب العراقي، يستمر الجدل وتضارب الآراء حول المسافة التي يرغب بها العراقيون، ان تكون بينهم وبين امريكا الدولة، فالإنقسام العرضي المعهود يشكل أول صور الانقسام تجاه هذه العلاقة، كما، ان كل قسم من ذاك الانقسام منقسم على نفسه بأكثر من توجه حول هذه العلاقة، فبين من يراها ضرورة مصيرية، وآخر يراها معادلا موازنا أوحدا لخارطة العلاقات العراقية، وثالث يراها، بأنها الدولة الاهم الذي ينبغي ان يحتفظ العراق بعلاقة إستراتيجية معها، فيما تتفاوت مواقف الاطراف الاخرى، إذ تتدرج الصور من تحفظات على طريقة التعامل الامريكي مع العراق الى اشكاليات على حدود الانخراط وعمقه، فيما تذهب اطراف الى توصيفها منبع الشر والخراب في العراق، وان وجودها اصل المشاكل ومغذيها.
تكمن مشكلة الطرف العراقي في (النفاق) الذي يحدد ملامح طريقة التعبير والوقوف من العلاقة الامريكية، فالكثير يظهر مواقف خلاف متبنياته الحقيقية، إذ يقف البعض في مقدمة المحشدين ضد الوجود الامريكي إلا انه يسعى في الخفاء على نسج علاقات معهم، ولو عبر الوسطاء، كما ان مواقف البعض من هذا الوجود لا يمثل ترجمة حقيقية لتقديرهم للمصلحة العراقية ومتطلباتها، بل يصدر نيابة عن هذا الطرف او ذاك، وفي معظم الاحيان، يكون هؤلاء ملكيين اكثر من الملك، إذ تعمل الجهة الدافعة لهم على ضبط ايقاع موقفها من الامريكان، ويتعاملون ببراغماتية محنكة، فيما يندفع الوكلاء والمتبرعون الى حد اسقاط السقف على رؤوس الجميع.
السؤال الاهم: هل ان العلاقة مع الامريكان مفروضة على العراقيين ولا مناص منها، أم انها خيار يقدر الطرفان بناء على مصالحهما، وهل ان الطرفين العراقي والامريكي مستعدون (رغبة وكفاءة) لتحديد صورة هذه العلاقة وتحديد معالمها، وهل يستطيع عراق اليوم بكل اضطرابه او جدله الداخلي وازماته ومشاكله ان يكون طرفاً مناسباً لرسم صورة واضحة ومستقرة للعلاقة مع الامريكان، وهل ان حسم صورة هذه العلاقة مدخلاً ضرورياً لتسوية المشاكل والتحديات الداخلية ام العكس، إذ لا بد من حسم تلك المشاكل قبل ان يتم تحديد صورة هذه العلاقة، وهل يمكن ان يتحرك نقاش ناضج بعيدا عن كل الضغوطات الداخلية والخارجية في الاوساط السياسية العراقية لبلورة موقف واضح ومحدد من العلاقة الامريكية، وهل يتعامل الامريكان بشفافية وصدق مع العراقيين في تعاملهم مع العراق في تحديد صورة العلاقة القادمة، والى أي مدى سيساهم الجوار العراقي والمحيط الاقليمي في دعم او تقويض علاقة عراقية متكافئة مع الامريكان؟
لم يكن تحديد معالم العلاقة مع امريكا صعبة على العراق وحده، فهذه العلاقة معقدة حتى على الدول المتقاربة في مكانتها من امريكا، بل حتى على الدول التي توصف بانها تدور في الفلك الامريكي، فالاتحاد الاوربي وكندا واليابان والهند والخليج وحتى اسرائيل يعانون احيانا من اضطراب ومشاكل في ضبط ايقاع العلاقة مع الامريكان، وذلك لان الامريكان ينطلقون في علاقتهم مع الاخرين من شعورهم بالهيمنة والتفرد والقدرة على التاثير المطلق في المشهد العالمي، وقد دعم شعورهم هذا، احكام قبضتهم على (الدولار والنفط والانترنيت)، والتي تمثل اهم عوامل التاثير في واقع الحياة لكل دول العالم، الامر يجعل شعور الاستعلاء الامريكي مستمراً.
اعتقد ان الوصول الى صورة واضحة ومستقرة ومحددة الاهداف والتوجهات في العلاقة مع الامريكان بعيدة المنال خلال المرحلة المنظورة، كما، ان الواضح من الارادة الامريكية عدم الرغبة الحقيقية في التعاطي مع العراق كدولة مكتملة السيادة، وكند حقيقي في العلاقة، ولا يزال الواقع العراقي غارقاً ما بين نفاق وتدليس تجاه حقيقة الموقف من امريكا، وما بين التحرك بالنيابة عن هذا الطرف او ذاك بعيدا عن المصلحة العراقية العليا، وبين مهرولين خلف العلاقة الامريكية بلا قيد او شرط، مستعدون للموافقة على الخضوع التام والتبعية المطلقة الى الطرف الامريكي مقابل بقاء الوجود الامريكي كطرف مكافئ لهذا الطرف او ذاك.