ولد مارسيل بروست في العاشر من تموز عام 1871، وكان والده أستاذاً في كلية الطب، ووالدته ابنة أحد الصرافين، تأثر بروست الطفل بجدته لوالدته متذوقة الموسيقا والأدب ، وبثقافة والدته بإجادتها للغات اللاتينية واليونانية، إلى جانب الانجليزية والألمانية.
عاش مارسيل بروست حياة درامية مع المرض، فمنذ نعومة طفولته كان ناحل الجسم وضعيفاً، وفي التاسعة من عمره بدأت تنتابه حالات الاختناق، واستوطن رئتيه مرض الربو المزمن، فاستسلم لواقع الرعاية الصارم، ولم تسمح له صحته المواظبة على الدراسة بشكلها النظامي كبقية أقرانه.
في المرحلة الثانوية استقرت حالته الصحية بعد المعالجات المنتظمة وأصبحت نوبات الربو تأتي متباعدة، أراد بروست دراسة الفلسفة والأدب لكن والده أصر على تسجيله في كلية الحقوق، وتخرج فيها بعد أن رسب في أكثر من امتحان.. بعد تخرجه أراد والده تعيينه في السلك الدبلوماسي، إلا أن بروست رفض وأصر على دراسة الفلسفة، وكان أن تسجل في «السوربون» لدراسة الفلسفة، وتقدم أيضاً لدراسة الآداب ونجح فيما أراد اختياره لنفسه.. في تلك المرحلة تعرّف على الوسط الارستقراطي الفرنسي، وكوّن علاقات اجتماعية جديدة مكّنته من لقاء أدباء عصره ومفكريه.. كان مارسيل بروست ميالاً للأناقة الاجتماعية، ومسرفاً في البذخ على نزواته الصغيرة وأصدقائه. كتب مارسيل بروست في عدة صحف منذ كان طالباً في الثانوية، وفي عام 1897 أصدر كتابه الأول بمشاركة رسومات مادلين لومير، ولم يلق رد فعل إيجابي، فقد فشل الكتاب .. وبدأ ينشر مقالاته الأدبية في (الفيغارو) و(النهضة اللاتينية)، ظل بروست يسكن في منزل والديه.. وفي عام 1903 توفي والده، وبعد أقل من سنتين توفيت والدته، وبدأت حالات من اليأس المرير تنتابه، فأثر ذلك على حالته الصحية وعادت من جديد نوبات الربو، ومنذ عام 1907 بدأ مرضه يتفاقم، وكان يخرج في سيارة مغلقة النوافذ.. وفي عام 1909 اضطر إلى البقاء معتزلاً في الفندق لسنة كاملة.. وفي عام 1910 لزم غرفته في منزله بباريس، فلم يكن ينهض سوى مرة واحدة أو مرتين في الشهر. كان يمضي نهاره في السرير وفي متناول يده طاولة تزدحم فوقها قارورات الدواء والدفاتر، تعلوها طبقة من الغبار، لأن تنظيفها ممنوع.. ثم قرر بروست أن يغطي جدران غرفته بالفلين بقصد عزلها عن الضجيج.. إضافةً لكل ذلك أصيب بمرض الزلال، وأصبح يفرط في تناول مهدئات الألم والمساحيق المضادة للربو، مع ذلك لم يتوقف بروست عن العمل – الكتابة – فقد نشر في (الفيغارو) مجموعة من المقالات النقدية لأعمال أدبية نالت استحسان القراء والمتابعين، وكان ينوي تأليف كتاب يضع فيه آراءه النقدية الجديدة عن إبداع الشاعر( سانت بوف) إلا أنه عدل عن مشروعه وانكبّ على كتابة روايته بدءاً من عام 1910، وبعد عامين أنجز ألفاً وثلاثمائة صفحة.. واحتار في العنوان: هل يكون (الزمن المسترد) أم (الزمن المفقود)؟! كذلك تساءل: هل يطبعه في مجلدين أم في أربعة مجلدات..؟! إلى أن وقّع عقداً في 11 آذار 1913 لطبعه على نفقته.
وبدأ يراجع الأوراق المطبوعة ويعدل ويضيف ويحذف إلى أن حدث ما لم يتوقعه، فقد هجره (الفرد اغوسينيلي) – شاب من موناكو كان سكرتيره وناسخ روايته على الآلة الكاتبة – لدراسة الطيران، وفي عام 1914 قضى نحبه في رحلة طيران. تأثر بروست بموت سكرتيره وتعطل عن العمل في مراجعة ما كتبه، وأهمل كل ما طبع بكامله، وبدأ يعيد الكتابة وينقّح العديد من الفصول القديمة ويضيف فصولاً أخرى جديدة، واستمر مشروعه بالتضخم طيلة ثلاث سنوات، وفي عام 1920 قرر بروست عمل مجلدين من(جانب غرمانت) في عام 1912 أعلن أن ثمانية مجلدات لم تعد تكفي، إذ أصبحت عشرة وستصدرها دار(غاليمار)، وأن الطبع لم يعد (لحساب المؤلف).
منذ عام 1917 كان بروست يعطي انطباعاً لمن يراه وكأنه خارج من كابوس، ويبدو شبه ميت معافى، أو شبحاً عيناه مفتوحتان، وكان جفناه مثقلين والعينان محاطتين بدائرتين سوداوين، يميل برأسه إلى الخلف، كما كان قفص صدره منتفخاً بشكل غريب ومشيته بطيئة. العام 1922 أتى عليه مخيفاً، فقد ازداد المرض تفاقماً، وتنوعت أشكاله فحدثت له أعراض بسبب تسرب غاز الفحم، وأصبح محبوس اللسان، وكان يخاف الموت قبل أن يتم عمله الأدبي، وفي تشرين الأول أصيب بالتهاب القصبات فأبعد الأطباء عنه كي لايعيقوه عن العمل، وبعد أيام ظن أنه تحسّن فعاود تصحيح الأوراق والإضافات والتعديلات حتى ساعات متأخرة من الليل، وأحياناً قبيل بزوغ الفجر، إلى أن فارق الحياة في الثامن عشر من تشرين الثاني 1922 وترك لنا عمله الخالد (البحث عن الزمن المفقود) الذي أخذ من حياته ونفسه وآلامه عشر سنوات مضنية تحرسها نجوم الأمل. مؤسساً بروست اتجاهاً جديداً في الرواية .
إعداد : محمد عزوز