خاص بالقلم – محمد بوداي
كان بامكان روسيا ان تستمر باللعبة السياسية للحفاظ على الخيط الدبلوماسي بينها وبين اوكرانيا فيما لو التزمت الاخيرة بقواعد اللعبة الدبلوماسية الناعمة، ولكن، عندما خرقت كييف قفازاتها الحريرية لترفع قبضتها بوجه روسيا كان لابد من ان تتلقى الرد المناسب. واظن ان القيادة الاوكرانية كانت تعلم بان الرد الروسي سيكون قاسيا فاستفزتها خصيصا لتتلقى هذا الرد لزعزعة الامن والاستقرار في المنطقة خدمة لمصالح اسيادهم ضاربين بمصالح الدولة الاوكرانية عرض الحائط. لم يكن احد يهدد وحدة الاراضي الاوكرانية، ولم يكن لدى سكان القرم الرغبة بالانفصال وكل ماجرى كان نتيجة التصرفات الرعناء للقيادة الاوكرانية الجديدة التي رهنت قرارها السياسي للغرب واصبحت بيدقا له لتهديد المصالح الحيوية لروسيا. القيادة الروسية تدرك ان الحكومة المتطرفة في لاتسعى لخدمة مصالح الشعب الاوكراني بل، لتوجيه ضربة قوية للامن القومي والاقتصادي لروسيا عبر اغلاق القاعدة البحرية الروسية على البحر الاسود ومنحها مستقبلا للناتو في محاولة لخنق روسيا جغرافيا وهذا ما لم تسكت روسيا عنه لانه تهديد مباشر لامنها القومي. واجهاض الخطط الروسية الطموحة لاقامة رابطة اقتصادية تنافس الاتحاد الاوربي في المنطقة. وبالفعل، فالاوربيون يخشون من قيام روسيا بتاسيس رابطة اقتصادية منافسة للاتحاد الاوربي تضم الجمهوريات السلافية وبعض الجمهوريات الناطقة بالتركية مثل كازخستان. وقد ادركوا ان ومثل هذا الاتحاد لن يكون فاعلا بدون اوكرانيا التي تبلغ مساحتها اكبر من مساحة فرنسا وإسبانيا وإيطاليا مجتمعة، كما يبلغ حجم اقتصادها خمسة اضعاف حجم الاقتصاد البيلوروسي. لذا، عمدوا الى زعزعة الاستقرار في هذا الاقليم الحيوي لروسيا اقتصاديا وعسكريا مما استدعى ذلك الرد الحاسم من الجانب الروسي عبر استعادة القرم وضمها لروسيا مجددا وهذا يعتبر تحركا استباقيا رائعا لروسيا التي كانت تراقب بحذر محاولات اوكرانيا لضم القرم اليها بشكل نهائي. القرم جمهورية ذات استقلال ذاتي ضمن الاتحاد الاوكراني، ولكن القيادة الاوكرانية الجديدة قررت مصادرة استقلالها وتحويلها الى مقاطعة عادية تحت اسم "تافريدا" في محاولة لطمس اي ارتباطها بتاريخها وطمس الهوية العرقية لاغلبية سكانها. ومن هنا كان اصرار المعارضة الاوكرانية على الغاء الدستور الحالي والعودة للعمل بدستور 2004 الذي لا يسمح بإجراء استفتاءات محلية وتنص المادة 73 من دستور عام 2004 على أن جميع المسائل المتعلقة بتغيير حدود الدولة يجب أن تطرح على استفتاء عام في البلاد. وواضح ان السبب برغبتهم بالعودة الى دستور عام 2004 هو اجهاض رغبة سكان القرم بتقرير مصيرهم مقدمة لهضمها عبر مصادرة صلاحياتها كجزء من دولة فيدرالية وتحويلها الى اقليم ازكراني عادي. وقد انتبه نشطاء القرم الى هذا الفخ الدستوري الذي تعده الحكومة المتطرفة في كييف فطرحوا فكرة العودة الى دستور 1992 الذي اقر بعد خروج اوكرايينا من الاتحاد السوفيتي حيث احتفظت القرم بصلاحيات ادارية واسعة تجعل منها دولة مستقلة على وجه التقريب. طبعا المعارضون لم يقبلون بذلك لانهم بالاساس يريدون الغاء استقلال القرم، وبالمقابل لم يرض الطرف الاخر بالعودة لدستور عام 2004 ففشلت المواجهة الدستورية بين الطرفين واحتكموا الى السلاح. ونال سكان القرم دعم الوطن الكامل ليس رغبة من روسيا بتقسيم الدولة السلافية الشقيقة بل، لان القيادة الروسية تدرك جيدا بان الهدف الحقيقي للقيادة الاوكرانية كانت تريد تحقيق مصالح اوربا وامريكا على حساب شقيقتها روسيا. وفور ظهور النوايا الروسية باستعادة القرم استيقظت عند الامريكيين والاوربيين والاتراك فجأة نزعة الحفاظ على استقلال الدول والمحافظة على وحدة اراضيها عندما تعلق الامر باوكرانيا علما بان امريكا اعتدت على استقلال 47 دولة عضو في الامم المتحدة منذ انتهاء الحرب العالمية الثانية. أما اوربا، فهي رائدة الاستعمار وتقسيم الدول في العالم، وبخصوص تركيا فحدث ولاحرج فهي التي كانت الى امد قريب تستعمر عشرات الدول والشعوب. الولايات المتحدة واوربا يهتمون بالحفاظ على وحدة اراضي الدول الاخرى فقط في الحالات التي يحقق ذلك مصالحهم الخاصة، اما بحالة العكس فانهم يعمدون الى تقسيمها وفقا لمصالحهم كما سبق وفعلت بيوغوسلافيا حيث فصلوا عنها كوسوفا، وتشيكوسلوفاكيا حيث فصلوا التشيك وسلوفاكيا الى دولتين ، ثم فصلوا جنوب السودان عن السودان، وقبلها فصلوا ارتيريا عن اثيوبيا حارمين اثيوبيا من منفذها الوحيد على البحر، وفصلوا التيمور الشرقي عن اندونيسيا، وفصلوا كوريا الى دولتين، وقبلها فصلوا سنغافورة عن ماليزيا، وفورموزا (الصين الوطنية) عن الصين. وهناك خرائط جاهزة لتقسيم سوريا والعراق ومصر والسودان والسعودية ولبنان وايران وباكستان وافغانستان وشمال افريقيا وروسيا والصين أي، اينما وطأت اقدام الاوربي والامريكي فهناك تقسيم الا في اوكرانيا حيث يصر الجميع بصوت واحد على ضرورة الحفاظ على وحدة الاراضي الاوكرانية وحرمان سكان القرم من حق تقرير مصيرهم علما بانهم يؤيدون اجراء استفتاء في اسكوتلندا ليقرر الشعب مصيره بالانفصال عن بريطانيا، وكذلك تجري الاستعدادات لاجراء استفتاء في كاتالونيا ليقرر الشعب مصيره حول الانفصال عن اسبانيا. ولا ادري لماذا يشعر رئيس المفوضية الاوربية خوسيه مانويل باروسو ورئيس الوزراء البريطاني بالقلق من اجراء استفتاء في القرم ليقرر الشعب مصيره بينما بلادهم منحت هذا الحق للمقاطعات الخاضعة لها. ولا ادري لماذا أيد الجميع اجراء استفتاء في جنوب السودان حيث قرر شعب الاقليم مصيره بالانفصال عن السودان. وايدوا ايضا رغبة سكان نيوفاوندلاند واللابرادور الذين قرروا عام 1948 الانفصال عن بريطانيا والانضمام الى الفيدرالية الكنديه واحترم العالم اختيارهم هذا. فأين الغرابة في ان يقرر شعب القرم مصيره في استفتاء عام ويقرر انضمامه الى الاتحاد الروسي؟ منع القرم من الحق في تقرير مصيره يعتبر انتهاكاً للقوانين الدولية، بما فيها قرار المحكمة الدولية التابعة للأمم المتحدة بشأن كوسوفو، ويعكس ازدواجية في المعايير الدولية، فقد قضت المحكمة الدولية في تموز 2010 أن إعلان إقليم كوسوفو استقلاله عن صريبا بشكل أحادي لا يتعارض مع القانون الدولي.
القرم والاستفتاء الممنوع البداية كانت كانت بتاريخ 27 شباط عندما دعا المرشح لرئاسة الحكومة الأوكرانية أرسيني ياتسينيوك الدول الموقعة على مذكرة بودابست الى ضمان أمن أوكرانيا ووحدة أراضيها. وعلى الفور استجاب حلفاء الانقلاب لدعوة المرشح، ففي الاول من آذار 2014 عبر رئيس المفوضية الاوربية خوسيه مانويل باروسو ضرورة تناول مشكلة القرم في اطار احترام وحدة وسيادة الاراضي الاوكرانية. كما دعا بان كي مون الى احترام سيادة ووحدة اراضي اوكرانيا، كما أكد وزير الخارجية التركي دعم بلاده لوحدة أراضي اوكرانيا. واوضح وزير الخارجية البريطاني وليم هيغ باتصال هاتفي مع سيرغي لافروف ضرورة الحفاظ على وحدة الاراضي الاوكرانية. ولم يبق مسؤول اوربي او امريكي الا وابدى حرصه على ضمان وحدة وسيادة الاراضي الاوكرانية فما السر بذلك؟ هذا الحرص على وحدة الاراضي الاوكرانية ليس حبا باوكرايينا بل، كرها بالروس ورغبة منهم بمصادرة استقلال القرم ذات الاغلبية الروسية لصالح حكومة قومية متطرفة مقدمة لاغلاق القاعدة البحرية الضخمة هناك واحكام الطوق المعادي حول روسيا واغلاق البحار امام اسطولها قبل البدء باثارة الفوضى داخل الاتحاد الروسي ذاته. وهذا وحده يفسر سرعة اعتراف الاتحاد الاوربي بالحكومة الاوكرانية الجديدة بالرغم من انها وصلت الى السلطة عن طريق البلطجة وبشكل مخالف لنصوص دستور عام 2010، ودستور عام 2004.وسر الرغبة الجامحة للجميع بضرورة الحفاظ على وحدة الاراضي الاوكرانية ومصادرة استقلال القرم. كل ذلك بنظرنا يدل على ان الحكومة الجديدة خططت لتوتير العلاقات مع روسيا عن سابق اصرار بدعم غربي وذلك تنفيذا لمخططات سابقة. وهذا ما عبر عنه "دنيس روس" مدير إدارة التخطيط السياسى فى وزارة الخارجية الأمريكية سابقا، عبر مجلة "نيوريببليك" الأمريكية، الذي دعا واشنطن الى فرض عقوبات اقتصادية وسياسية ضد روسيا وتقديم دعم اقتصادى قوى لأوكرانيا، حتى يدرك العرب والشرق أوسطيون أن يد أمريكا لا تزال قوية، وأنها لن تتراجع عن قيادة العالم، ولن تسمح لبوتين وأنداده بتجاهل المعايير الدولية والاستناد إلى القوة الغاشمة كعملة وحيدة فى الميدان الدولي. هذا يدل على ان المسالة الاوكرانية لعبة امريكية للضغط على روسيا وان القيادة الاوكرانية الانقلابية هم عملاء امريكا.
بداية التدخل بشؤون اوكرانيا الداخلية وبدأ التدخل في شؤون المنطقة عبر قيام كاترين آشتون بزيارات متكررة لكييف، في دعم سياسي ودبلوماسي واضح للحكومة الجديدة. وكذلك زيارة جون كيري لأوكرانيا، وزيارات ماكين الاستفزازية ثم استقبال أوباما رئيس الوزراء الأوكراني أرسيني ياتسينيوك في واشنطن، وتأكيده استعداد الولايات المتحدة تقديم الدعم اللازم لتأمين سيادة أوكرانيا وسلامة أراضيها. الغربيون تمسكوا بمعاهدة بودابست التي لم يصدق عليها البرلمان الروسي، بينما روسيا اعتمدت على البند الاول من ميثاق الامم المتحدة الذي ينص في مادته الاولى على حق الشعوب في المساواة وتقرير المصير، ونذكر بان الرئيس الامريكي ويلسون هو اول من طرح شعار (حق تقرير المصير) في خطابه امام الكونغرس بتاريخ 8 كانون الثاني عام 1918. انظر مبادئ ويلسون ال 14. كل مافعلته روسيا كان احترام مبادئ الامم المتحدة وخيارات شعب القرم الذي حدد مصيره بالعودة لاحضان الوطن الذي سلخ منه بطرق غير شرعية. القرم كان قد ضم الى اوكرايينا برغبة شخصية من خروتشوف الاوكراني الاصل الذي كانت تحركه نوازعه القومية. ونعيد للاذهان ان خروتشوف هو الذي اعاد شعوب القرشاي والبلكار والشيشان والانغوش من منفاهم الستاليني ولكنه بنفس الوقت لم يسمح لتتار القرم بالعودة من منفاهم لانه كان يطمح بتحويل القرم الى ارض اوكرانية صرفة سواء بملكيتها او بسكانها. وقد جرى ضم القرم لاوكرانيا بقرار فردي اتخذه خروشوف وفرضه على القيادة حيث لم يجرؤ احد على معارضته. حضرته أبلغ رفاقه بقرار نقل القرم إلى أوكرانيا، وذلك بصورة عرضية أثناء توجههم لتناول الغداء، قائلاً: (نعم أيها الرفاق، هناك رأي بشأن إعطاء القرم إلى أوكرانيا). وفي جلسة 15 كانون الثاني عام 1954 وافق مجلس السوفيت الاعلى على قرار تضمن بنقل ملكية القرم الى اوكرانيا بعد مناقشة دامت 15 دقيقة وذلك دون اخذ رأي شعب القرم بالامر. وكان ذلك مخالفة صريحة لقوانيين الاتحاد السوفيتي وبالتالي، فعملية ضم القرم لاوكرانيا كانت غير شرعية على عكس عملية عودة القرم لاحضان الوطن الذي تم في يوم الثلاثاء الموافق 18 آذار 2014، حيث اصلح شعب القرم ذلك الخطأ التاريخي وقرر العودة لاحضان الوطن ضمن اطار القوانين الدولية السائدة. لقد قرر شعب القرم مصيره بالعودة للوطن عبر استفتاء شعبي اشرف على مراقبته حوالي 70 مراقبا دوليا كان 45 منهم من دول الاتحاد الاوربي ولم يشكك احد بنزاهة ذلك الاستفتاء. ولكن امريكا كانت قد اعلنت رايها برفض نتائجه حتى قبل ان يجري الاستفتاء لانها تعرف مسبقا بان شعب القرم سيقرر العودة لاحضان وطنه. لذا، فلا عجب من تقدم الولايات المتحدة بمشروع قرار لمجلس الامن يقضي باعتبار الاستفتاء القادم في القرم غير قانوني. ودعت ايضا الى عدم اعتبار نتيجة الاستفتاء أساساً لأي تغيير في صفة شبه الجزيرة، بسبب عدم التنسيق مع السلطات في كييف، ودعت امريكا جميع الأطراف والمنظمات الدولية إلى عدم الاعتراف بنتائج الاستفتاء. وتقديم مثل هذا المشروع لمجلس الامن وهي تعرف سلفا بان روسيا ستجهضه بالفيتو يدل على مدى حقد امريكا على الموقف الروسي. وكما هو واضح، فان امريكا اعتبرت الاستفتاء غير شرعي، وأنه يمثل انتهاكاً لدستور أوكرانيا، وأكدت أنها لن تعترف أبداً بنتائجه وذلك قبل بدء الاستفتاء. بالاضافة لذلك، اعتبر الغرب موقف روسيا متعارضا مع اتفاقية بودابست الموقعة عام 1994 بين روسيا وكل من أوكرانيا وبريطانيا والولايات المتحدة، التي تضمن سيادة أوكرانيا ووحدة أراضيها مقابل تخليها عن الأسلحة النووية. ومعلوم ان اوكرانيا اصبحت بعد تفكك الاتحاد السوفيتي ثالث اكبر قوة نووية في العالم حيث كانت تمتلك 1300 رأسا نوويا قبل تخليها عن ترسانتها هذه عام 1996. البرلمانيون الروس لم يكونوا اطفالا يمكن خداعهم بسهولة، وهم كانوا على علم بالمرامي الامريكية الانكليزية البعيدة لاتفاقية بودابست لذا، لم يصدق البرلمان الروسي عليها، ومن المعلوم ان كل اتفاقية لايصدق عليها البرلمان غير فاعلة لكن الغربيون يتناسون هذا الامر. هم ارادوا توجيه ضربة مزدوجة ضد اوكرانيا وروسيا معا عبر تجريد الاولى من سلاحها النووي ومنع روسيا عن التفكير باستعادة القرم مستقبلا من ناحية اخرى لكن اقطاب الدبلوماسية الروسية لم يقعوا بهذا الفخ وحسنا فعلوا. يتبع