نجحت منظمة أميركية في الاستحصال على عدد من وثائق وزارتي الخارجية والدفاع تعود الى الفترة المحيطة بهجوم بنغازي في 11 أيلول 2012، حيث قتل أربعة أميركيين بينهم السفير كريس ستيفنز. إلّا أن الوثائق التي أُفرج عنها بأمر قضائي كشفت عن أسرار خطيرة تتعلق بالحرب في سوريا وتطورها والدور الغربي في قيام دولة «داعش». تنتقي «الأخبار» ثلاث وثائق من المجموعة لأهميتها
حين تخوض الحكومة الأميركية، بجيشها ومخابراتها ووكالاتها السرية، حروبها ومهماتها حول العالم، فإنّ الحفاظ على «إمكانية الإنكار» ومجهولية الفعل يكون دائماً في أذهان المخططين، خاصة في حالات «العمليات القذرة».
نظام السرية ومنع المعلومات عن الجمهور هو ما يسمح للمؤسسة الأمنية، حين تسير الأمور باتجاه كارثي ــ كما حصل في أميركا الوسطى، أفغانستان، والمشرق العربي اليوم ــ أن تدّعي أن «ما جرى لم يكن متوقعاً»، وهو خارج عن إرادة واشنطن أو، على الأقل، لا علاقة لها به.
في الأيام الماضية، أجبرت مجموعة حقوقية (يمينية) أميركية، اسمها «جوديشيال واتش»، الدولة الأميركية على الكشف عن مجموعة وثائق ورسائل من أرشيف وزارتي الخارجية والدفاع، بعد دعاوى قضائية استمرت لأكثر من سنتين. ما تثبته هذه الوثائق، على الرغم من أن أجزاءً كبرى منها قد طالها مقصّ الرقيب، هو أن الحكومة الأميركية لن تتمكن من أن تنكر دورها في بناء «الإمارة الإسلامية» في شرق سوريا، أو صعود التيارات السلفية في البلد، ومدّها بالسلاح من ليبيا.
الأميركيون كانوا على علمٍ بصعود ما صار اسمه «تنظيم الدولة»
الوثيقة الأولى هي تقريرٌ لوكالة استخبارات الدفاع (جهاز المخابرات التابع لوزارة الدفاع) صدر في آب 2012 يصف الوضع في سوريا، والفرقاء المتقاتلين على الأرض، والاستراتيجية الغربية في البلد. يبدأ التقرير بالقول إن «الاحداث … تأخذ طابعاً طائفياً واضحاً»، وإن القوى الأساسية التي تقود «التمرّد» في سوريا هي «السلفيون، الإخوان المسلمون، والقاعدة في العراق»، موضحاً أن «الغرب، دول الخليج، وتركيا» تدعم هذه المعارضة.
يجب أن نتذكّر هنا أن هذا التقييم قد كُتب في آب 2012، في ظلّ احتدام الوضع الميداني في سوريا، ودخول الغوطتين وحلب من قبل قوات المعارضة، وظهور تنسيق أمني شبه معلن بين هذه المجموعات وأجهزة المخابرات الأجنبية، وحين كان جلّ الاعلام العربي، وأغلب المعارضين السوريين، ينفون بشدّة وجود ميول سلفية وطائفية ومتطرّفة ضمن قوى المعارضة، معتبرين «اتهامات» كهذه تضليلاً من النظام وتشنيعاً على «الثورة» (الوثائق الأميركية لم تستخدم تعبير «ثورة» للاشارة الى الحرب في سوريا).
إلّا أن هناك ما هو أخطر؛ فالوثيقة ترصد بوضوح ــ منذ تلك الفترة المبكرة ــ تمدّد تنظيم «القاعدة في العراق» الى سوريا عبر «جبهة النصرة»، وترسم توقّعات للمستقبل تبدو اليوم كأنها نبوءة، تتضمن إقامة «إمارة إسلامية» في شرق سوريا، وسيطرة «القاعدة» على الحدود السورية ــ العراقية، وعودتها الى أماكن نفوذها السابقة في الموصل والرمادي!
المثير في الموضوع هو أن الوثيقة تتكلم عن إنشاء الامارة الاسلامية على أنه مشروع يتبناه الغرب والقوى الدولية الداعمة للمعارضة السورية، تحت شعار أن إخراج الشرق السوري من نطاق سيطرة الحكومة كفيل بـ»عزل النظام»: «إقامة إمارة سلفية، معلنة أو غير معلنة، في شرق سوريا (الحسكة ودير الزور) هو تحديداً ما ترغبه القوى الداعمة للمعارضة».
اللافت أيضاً أن محللي وزارة الدفاع، على عكس الخطاب الرائج دبلوماسياً وفي صفوف المعارضة آنذاك، توقّعوا ألّا يسقط النظام السوري عسكرياً، وأنه «سيستمرّ وسيحتفظ بسيطرته على أراض سوريّة».
الوثيقة الثانية، وهي من الفترة ذاتها، تثبت أنّ الولايات المتحدة كانت على علمٍ (أو تشرف على) بإرسال شحنات السلاح من عتاد الجيش الليبي السابق الى سوريا، وأن هذه الشحنات كانت تنطلق من ميناء بنغازي الى موانئ بانياس وبرج الإسلام على الساحل السوري. بل إن الوثيقة تقدّم «جردة» بنوعية السلاح المرسل وكميته، وهو يتضمن قناصات وقواذف صاروخية وقذائف مدفعية ثقيلة.
أمّا الوثيقة الأخيرة، فهي قد تكون الأكثر إحراجاً بالنسبة الى إدارة أوباما في الداخل الأميركي (فالناخبون الأميركيون، في نهاية الأمر، لم يحاسبوا حكومتهم يوماً على جرائم ارتكبتها بحق شعوب أخرى)، فهي تتعلّق بالهجوم على القنصلية الأميركية في بنغازي، الذي أدى الى مقتل أربعة أميركيين، بينهم السفير «كريس ستيفنز».
على عكس ادعاءات أوباما، وهو كان يخوض حملة رئاسية يومها في وجه ميت رومني، وكان هجوم بنغازي إحدى نقاط الهجوم عليه، فإن الاستخبارات الأميركية كانت تعرف، منذ اللحظة الأولى، هوية مرتكبي الهجوم والمجموعات التي شاركت في تخطيطه.
بحسب التقرير، الذي أُرسل ــ في اليوم التالي للهجوم ــ الى مختلف إدارات وزارة الخارجية، بما في ذلك مكتب هيلاري كلينتون، فإن الاعداد للهجوم كان قد تمّ قبل عشرة أيام، وهو كان يهدف الى قتل «أكبر عدد ممكن من الأميركيين» انتقاماً لمقتل «أبو يحيى»، أحد قادة «طالبان» في باكستان، وتم اختيار الموعد ليتوافق مع الذكرى الحادية عشرة لهجمات 11 أيلول 2001.
إضافة الى كشف معرفة الرئيس الأميركي وإدارته بهوية المنفذين والمتعاونين معهم (متضمناً أسماء المجموعات وعديدها ونسبها السياسي)، وأن الأمر لم يكن محاطاً بالغموض ويحتاج الى تحقيقات موسّعة كما ادّعى البيت الأبيض يومها، فإن الوثيقة تثبت أن الادارة الأميركية استمرّت في التعاون مع مجموعات ــ على رأسها الإخوان المسلمون ــ كانت تعرف بتورطهم في قتل دبلوماسييها.
الأميركيون، إذاً، كانوا على علمٍ بصعود ما صار اسمه «تنظيم الدولة» واتجاهه نحو تأسيس إقليم/إمارة يتبع له في شرق سوريا وغرب العراق. وبدلاً من النظر الى التنظيم القاعدي كعدو وتهديد، فإن الادارة الأميركية اعتبرته مكسباً لسياستها في المنطقة، ودعمت ــ مع حلفائها ــ هذه العملية بوعيٍ كامل لنتائجها المستقبلية.
هذه الوثائق تثبت أيضاً، للمرة الأولى، أن البيت الأبيض كان مطلعاً عن كثب على عمليات توريد الأسلحة الى سوريا منذ أواخر عام 2011، ويملك معلومات دقيقة عن أنواعها وكمياتها.
هذه الحقائق قد تمرّ بلا أثرٍ اليوم، ولكن قولها عام 2011 أو 2012 كان سيُعتبر «نظرية مؤامرة» مجنونة. لعلّ هذا الكشف يساعدنا، لا على فهم تاريخنا القريب فحسب، بل ومستقبلنا وطبيعة العالم الذي نعيش فيه، وارتباط قوى الشر والهيمنة بعضها ببعض، مهما تباعدت في الفكر والايديولوجيا.