د. عادل محمد عايش الأسطل
منذ أن أصدرت المحكمة العليا الإسرائيلية قرارها بهدم البنايتين العائدتين للمستوطنين والكائنتين في مستوطنة (بيت إيل) الجاثمة على أراضي الضفة الغربية -شمال شرق رام الله- والمعروفتين بمشروع (مئير دراينوف)، في أعقاب رفضها الالتماس الذي قدمته مسبقًا الشركة البانية، كونهما مبنيتين -بدون ترخيص- على أراض فلسطينية خاصة، كان استولى عليها الجيش الإسرائيلي عام 1970، قرر رئيس وزراء العدو "بنيامين نتانياهو" بمداواة القرار على طريقته الخاصة، باعتباره واحدًا من رؤساء الوزراء الإسرائيليين، الذين لهم القدرة على معالجة مثل هذه المشكلة، وتلك المرتبطة بالصناعة الاستيطانيّة.
فمنذ نشأة الدولة وبداية نشاطها الاستيطاني، انشغل رؤساء وزرائها، بمسألة كيف يمكن التوفيق بين صناعة الاستيطان وبين مواجهة قرارات صادرة عن المحاكم الإسرائيلية، وكيف يتعاملون مع الضغوط الآتية من الشركاء في الحكومة، وخاصةً أولئك الذين ترتكز أهدافهم الأولى على الاستثمار الاستيطاني، كشرط مُسبق للدخول في الحلف الحكومي. وكانوا ينجحون في كل مرة، في صالح تنمية تلك الصناعة.
كان "نتانياهو" قد بدأ (فورًا) بالمصادقة على بناء 300 وحدة سكنية في نفس المستوطنة، وفي ذات الوقت أعلن الموافقة على التخطيط لبناء أكثر من 500 وحدة استيطانية في القدس الشرقية، وأوعز بتقديم مشاريع بناء للعديد من الوحدات الاستيطانية الأخرى في مستوطنات (بزغات زئيف، راموت، جيلو، هارحوماة)، شرق وشمال وجنوب مدينة القدس على التوالي، برغم علمه مسبقًا، بأنّه سيتلقى موجة حادّة من الرفض والانتقادات الدوليّة، بسبب أنّ توجهات كهذه ستؤجج الأوضاع وتُبعد عن حل الدولتين.
موقف "نتانياهو" من الاستيطان ليس ثابتًا وحسب، بل هو مفتون به إلى حد الجنون، ولئن أصابت المستوطنين الذين وقفوا أمام الجرافات الإسرائيلية في مواجهة عملية الهدم جولة من العذاب، سيما وأنّها جاءت في الذكرى العاشرة لعملية فك الارتباط عن قطاع غزة في العام 2005، فإنّ "نتانياهو" واجه مُعاناة أكبر، باعتباره لا يستطيع مخالفة القانون، أو اتهامه بالخاطئ من جهة، وليس بمقدوره مشاهدة عملية هدم أخرى لحكومته القائمة على قاعدة استيطانية بحتة من جهةٍ أخرى.
قرار المحكمة اضطره رغمًا عنه الوقوف بين خيارين: الاعتراف به كحقيقة، وإن أمام أعين العالم، باعتباره يؤدّي غرضًا مزدوجًا، من أنّ المخالفين للقانون عربًا كانوا أم يهودًا هم سواء أمام القضاء الإسرائيلي، وكونه ملائمًا للمرحلة الراهنة التي تحمل غضبًا دوليًا ترتيبًا على نوايا حكومته بشأن تفريغ بعض القرى الفلسطينية من أصحابها، أو بلجوئه إلى ركل القرار برجليه، وعدم قراءته أو الالتزام به، وإن كان بالالتفاف على استقلالية القضاء الإسرائيلي وسيادته.
ولما كان الاستيطان هو فطرته التي انحدر عليها، ويُمثّل سياسته الخطِرة التي اعتادها، سيما وهو الذي عمل طوال وقته من أجل الاستيطان، وفي مناطق فلسطينية حساسة، إضافةً إلى قيام آخرين باستفزازه وتحشيده من أجل مواجهة القرار ومكافحته، وبخاصة تلك الآتية من حلفاء المستوطنين وشركاء الحكومة، فقد اختار الخيار الثاني، والذي يعني خوض مرحلة أخرى من محاولات الانقلاب على الواقع، الذي يرفض تمامًا تكريس السياسة الاستيطانية باعتبارها فاشلة.
"نتانياهو" لم يكن وحده في الحلبة الغاضبة من القرار والمعارِضة له، فعلاوة على قيام حليفه القديم وعدوه الجديد وزير الخارجية السابق "أفيغدور ليبرمان" باتهامه بإخفاقه في جلب القرار إلى جانبه، وبعدم قدرته على القيادة ومواجهة التحديات، فقد كان هناك من أشهروا تحدّيهم للقرار وعملية الهدم، وبخاصة وزرائه في الحكومة، الذين سارعوا بالدعوة إلى المزيد من الاستيطان ردًا على ذلك القرار.
ومن جانبه دعا وزير التعليم وزعيم حزب البيت اليهودي "نفتالي بينت" إلى الرد الفوري على قرار الهدم، بإعطاء المزيد من تراخيص البناء في مستوطنات الضفة، وأكد على أنّ حزبه سيواصل استيطان (أرض اسرائيل) وسط التقيد بأحكام القانون، في حين أكّدت وزيرة القضاء "إيلات شكيد" وهي من نفس الحزب، بأنّه سيتم إعادة توقيف البنايتين فور هدمهما.
وإن كانت المحكمة قد حققت الغرض من قرارها، وهو أنّ هناك مؤسسة قضاء إسرائيليّة تتميّز بأنها صاحبة سيادة، وأنّ على الجميع الإنصات لها، والخضوع أمامها، لكن بالمقابل فإنّ "نتانياهو" وحكومته وزعماء آخرين -كما رأينا- يُقدّرون في ذاتهم -على الأقل-، بأنّهم هم أصحاب السيادة الأعلى، بسبب أنّ هذه السيادة متجددة لهم تلقائيًا، وليست كتلك المرتبطة قراراتها بحدود، ولذلك فإنّهم يعتقدون أنّ من السهل عليهم إثباتها من خلال الانطلاق نحو هجمة استيطانية أكبر.
خانيونس/فلسطين