خاص مركز بيروت لدراسات الشرق الأوسط – بقلم: عبدالله أحمد*–
لا يخفي على العارفين في الشؤون الجيوسياسية والعلاقات الدولية مدى الإرباك لدى الولايات المتحدة الأميركية وحلفائها من دخول روسيا الحرب في سورية بقوة وحزم وبشكل غير مسبوق. إنها مرحلة تغيّر حاسمة، وينطوي على ذلك تغيير في طبيعة المفاوضات الدولية والتسويات الاقليمية، فالضبابية في العالم بدأت تنقشع وبوابة العبور الى العالم الجديد أصبحت في طورها الأخير.
إنها اللحظة الأكثر أهمية في الشؤون العالمية منذ نهاية الحرب الباردة في ظل المصالح الجيوسياسية المتناقضة. فالواقع الجديد ما هو إلا مقدمة لإعادة تنظيم الموقف الجيو-ستراتيجي في المنطقة والعالم، والذي قد يؤسس لبناء توازنات ومسارات جيوسياسية جديدة. كما أنه قد يفرض على الولايات المتحدة الوصول الى تفاهمات “بحكم الضرورة ” مع روسيا من خلال التعاون ولو على مضض لتلافي أي تصادم قد يؤدي الى نتائج كارثية على المنطقة والعالم.
التصريحات الإعلامية الصادرة عن الولايات المتحدة وحلفائها نادراً ما تنقل الدوافع الحقيقية، ولكنها جزء لا يتجزأ من استراتيجية سياسي تهدف الى خلق الانقسام الزائف أحياناً، أو المناورة وتبادل الأدوار في إطار الحرب الإعلامية المتصاعدة على سورية وروسيا وحلفائهما.
الولايات المتحدة تراقب عن كثب العمليات الجوية الروسية المكثفة بالتوازي مع تقدم الجيش السوري، واحتمال تعثر روسيا في سوريا هو الفكر الوحيد المريح صدى في الأوساط السياسة الامريكية في الوقت الراهن، في حين تدعو أصوات أكثر أهمية بأن ما يحدث هو كارثة للسياسة الخارجية الأميركية.
تغيّرت التفاصيل، ولكنه النمط غير المألوف بالنسية للغرب! فلاديمير بوتين أدرك أنه لا يمكن إعطاء الولايات المتحدة الوقت الكافي من أجل المماطلة في لعبة استنزاف سورية وحلفائها من خلال التنظيمات الإرهابية لتحقيق مكاسب جيوسياسية، ريثما يكتمل مشروع إعادة التفكير الاستراتيجي الأميركي أي “ترحيل الأزمات الى ما بعد الانتخابات الأميركية”. ولا بد من تغيير قواعد اللعبة في الشرق الأوسط وملء الفراغ في ظل تراجع منسوب القوة الأميركي في المنطقة والعالم بالإضافة الى أنها المرحلة المناسبة لروسيا للدفاع عن مصالحها ولتغيير موازين القوى وإظهار قوتها وقدرتها على تحدي الولايات المتحدة في أكثر من منطقة.
مع ذلك، فإن الولايات المتحدة وحلفاءها لن يقفوا مكتوفي الأيدي، فالحرب الإعلامية ضد روسيا الاتحادية وسورية مستمرة ومتصاعدة، ومحاولات التشويش والعرقلة أيضاً، إضافة الى تصعيد إمدادات الأسلحة إلى “المعتدلين” والمجموعات الإرهابية التي تعتمد على جيش الفتح وجبهة النصرة.
في المقابل، فإن غرفة العمليات المشتركة السورية – الروسية، وقوة الجيش السوري على الأرض المترافقة مع الدعم الروسي الجوي، يؤشران الى تغيّر ميداني استراتيجي بدأت تظهر ملامحه في جبهات القتال من ريف حماه الشمالي الى سهل الغاب وحلب وصولاً الى ريف اللاذقية والغوطة الشرقية والمنطقة الجنوبية، واستمرار التقدم الحاسم قد يؤسس لتكوين أرضية لتسويات إقليمية بميزان القوة الجديد الذي يمتد من دمشق الى موسكو.
يبدو أن لواشنطن صعوبة في التكيّف. ومع ذلك، فإنه الثمن الذي لابد لها من دفعه في ظل المتغيرات الجديدة، أي الاستمرار في ضبط النفس ومحاولة الحد من التداعيات، في ظل غضب حلفاء الولايات المتحدة “تركيا والسعودية ” أمام العجز الأميركي. فالتذبذب واضح في التصريحات. تركيا تتساءل ماذا يعني هذا بالنسبة لمستقبله. فعلى الرغم من الخطاب العام، أصبحت خطة بروكيز للمناطق العازلة والحظر الجوي التي سعت لها تركيا والسعودية من الماضي، كما أن أداء وتصريحات حلف شمال الأطلسي المتناقضة حول الدفاع عن تركيا لا ترضيها ولم يبقَ لدي السعودية سوى تصريحات وزير خارجيتها عادل الجبير الاستعراضية التي تشير الى توتر وإرباك.
اجتماعات فيينا وإن كانت نفطة تحول، إلا أن الولايات المتحدة والتي تجيد اللعب على الحبال والتناقضات، تجد صعوبة في التكيّف مع الواقع الجديد، فالقبول بقواعد روسيا وحلفائها لضمان مكانها الخاص في المنطقة من خلال تسوية إقليمية محتملة في المستقبل القريب، له ارتداداته على مناطق ومسارات جيوسياسية أخرى ، والاستمرار في اللعب على حافة الهاوية من خلال دعم “المعارضة المعتدلة ” لتغيير الواقع الجديد غير مضمون النتائج وهو يحمل مخاطر غير محسوبة.
إلا ان استمرار عدم الثقة بين الولايات المتحدة وروسيا من جهة، وعدم رغبة الولايات المتحدة وحلفائها بإنهاء الحرب السورية من جهة أخرى، يدفعان الولايات المتحدة الى محاولة إفشال الجهود الروسية – السورية في إحراز تغيير استراتيجي يبنى عليه في التسويات القادمة.
الخلاصة :
ما يميّز هذه المرحلة هو التحولات على أرض المعركة في سورية مع تقدم الجيش السوري والانهيار في صفوف المجموعات المدعومة غربياً. وعلى مستوى آخر، فإن التحدي الروسي للتفوق الجوي الأميركي على مساحات واسعة في الشرق الأوسط منذ أكثر من 20 عاماً، وإنهاء احتكار أميركا لاستخدام صواريخ “كروز” بعيدة المدى خلال الـ25 سنة السابقة ، بعد إطلاق صواريخ “كروز الروسية” في استهداف مواقع تنظيم داعش والمجموعات الإرهابية الأخرى في سورية.
إنها بداية لمرحلة تحوّل كبرى بدأت تداعياتها تظهر في المنطقة والعالم، ظاهرها تسارع الحراك الدبلوماسي بالتوازي مع الصخب الإعلامي، وحقيقتها هو تصعيد الاشتباك السياسي والإعلامي الذي يعتمده الغرب من أجل كسب الوقت، وعرقلة الجهود الروسية بالتزامن مع الخطى المتسارعة لإعادة صياغة الاستراتيجيات الغربية من خلال مشاريع إعادة التفكير الاستراتيجي الأميريكي ومشاريع مواجهة روسيا والصين وحلفائهما على جبهات الصراع “الشرقية والغربية”.
الأشهر القادمة تحمل مؤشرات التغيّر الاستراتيجي على ميدان الحرب في سورية لصالح الدولة السورية والذي قد يؤدي الى بلورة المبادرات الفعلية لإنهاء الحرب، كون الوصول الى حافة الحاوية في مواجهة عالمية كبرى في الشرق الأوسط غير مرجحة في المرحلة الحالية. والتصريحات التي صدرت عن اجتماعات فيينا ما هي إلا بداية لجس النبض واختبار لنقاط القوة والضعف للقوى الإقليمية والدولية، ولا يبدو أنها ستصل الى أي نتيجة ذات قيمة في هذه المرحلة، ولا بد من انتظار تحوّلات الأسابيع والأشهر القادمة التي قد تؤسس الى تسويات فعلية في “فيينا 2” أو “جنيف 3 “من خلال إعادة صياغة المسارات الجيوسياسية في المنطقة والعالم.
وفي ظل محدودية قدرة الولايات المتحدة على صياغة الأحداث في سوريا والعراق من دون “مخاطرة عسكرية كبرى” غير ممكنة في هذه المرحلة، فقواعد اللعبة في الشرق الأوسط قد تغيّرت …وما على الولايات المتحدة وحلفائها في المنطقة إلا التكيّف مع الواقع.
والرهان الأساس يكمن في قدرة الجيش السوري والحليف الروسي في إحداث تغيير استراتيجي على الأرض في الأسابيع والأشهر القادمة، وعندها تفتح المسارات السياسية للتسوية، ويصبح التكيّف الأميركي مع الواقع الجديد أمراً لا مفر منه. إلا أن جبهات الصراع لا تزال مفتوحة وممتدة من أوكرانيا وصولاً الى بحر الصين الجنوبي فالعالم في طور إعادة رسم المسارات الجيوسياسية والتحديات كبيرة بالنسية الى المنطقة والعالم.
*عبدالله أحمد باحث استراتيجي سوري