
رغبة "إسرائيل" في الانتماء إلى العلمانية، باعتبارها أكثر نفعًا باتجاه مشروعها الصهيوني وعلاقاتها بالمجتمع الدولي، لم يكن تحقيقها سهلًا، حيث كانت هناك جماعات وأحزاب يهودية دينية -أصولية ومتشددة- تقف حائلًا دون أي محاولة باتجاه تمريرها بشكلٍ كامل، وذلك من خلال نفوذها على المستويين الحزبي داخل الكنيست -البرلمان-، والرسمي داخل الحكومة، الذي يجعلهما يُحِجمان في أحيانٍ كثيرة عن القيام بأي مشاريع يمكن إدراجها في إطار العلمانية.
وقد كانت الأحزاب الدينية، تجعل من مسألة ضمان حصولها على تنفيذ مطالبها الدينية، شرطًا مسبقًا قبل دخولها في أي ائتلاف حكومي، حيث يتعذّر تكوين حكومة، بمعزلٍ عنها، لعدم تمكن أيّ من الأحزاب الكبيرة من تشكيل الحكومة بمفردها، والتي تستند إلى ضرورة احترام القوانين الدينية -التوراتية-، وعدم المس بالأعراف والتقاليد اليهودية الأخرى.
وفي العادة كانت الحكومات الإسرائيلية المتعاقبة، وسواء كانت يمينية أو يسارية، تضطر إلى تنفيذها لوعودها باتجاه تلك الأحزاب، وهي تحسب حسابها بجدّية واسعة، بسبب السلاح القاطع الذي تملكه بيديها، والذي يتمثّل إمّا بتصويتها لإحباط مشاريع برلمانية، أو بتهديدها بالانسحاب من الحكومة ومن ثم إسقاطها، وحتى في حال الاستغناء عنها في التشكيلات الحكوميّة، فإنها تلجأ إلى عرقلة أية مشاريع غير لائقة بالنسبة لها، بقوّة نفوذها الديني داخل المجتمع الإسرائيلي، وما يمكن أن تقوم به من نشاطات مُعادية.
فعلى مدى تواجد الدولة الإسرائيلية، كانت تلك الجماعات والأحزاب الدينية، تنجح في إحداث صحوة دينية، ليس على المستوى الشعبي وحسب، بل على المستوى الرسمي أيضًا، وساعدت المراحل الصعبة التي تمر بها "إسرائيل"، في تأييد شعاراتها نحو الدين والتدين، إذا ما أرادت تحقيق النصر، وللنجاة من الهزائم، وتمهيدًا لاستقبال "المسيح المنتظر".
وكما أرجع الحاخامات اليهود – التابعين لحركات وأحزاب دينية-، انتصار "إسرائيل" عام 1967، على الجيوش العربية، واحتلالها القدس الشرقية، بمثابة نصر إلهي، فقد أرجعوا هزائمها وإحباطاتها العسكرية، وسواء التي خاضتها ضد تنظيم حزب الله اللبناني، أو التي تم خوضها ضد حركات المقاومة في قطاع غزة، إلى الغضب الإلهي، الناتج عن تركها الدين والتصاقها بمشروعات علمانية.
ولقد استمر هؤلاء الحاخامات، في مطالبة الحكومات بتحديد موقفها من الدين بشكل صارم، واتّخاذ مواقف داعمة في سبيل الخلاص ممّا يحيط بـ"إسرائيل" من المآزق الصعبة. وطبقًا لمعتقداتهم، فإنّ أي تعديل في الحياة اليهودية دينيًّا، لا يكفي الابتعاد عن مواطن الأخطاء فقط، وإنما سيترتّب التركيز على تعلم الشريعة وتطبيق حدودها بشكلٍ تام.
واسترشدوا بالمآزق الصعبة التي تزفّ "إسرائيل"، بدءًا بالضغوطات الدوليّة التي تتحملها على مدار الساعة، بسبب القضية الفلسطينية، ومرورًا بتقدم المسلمين في إسلامهم، وظهور تنظيمات إسلامية متشددة في الخارج، وأخيرًا اشتعال الهبّة الفلسطينية في الداخل، والتي تشمل عمليات الطعن والدهس وإطلاق النار، ضد الإسرائيليين، باعتبارها ناجمة عن نزعة دينية محورها "المقدسات الإسلامية"، وقوميّة محورها "تحرير الأرض والإنسان"، والتي ليس بالإمكان إغفالها أو التغاضي عنها كدوافع عليا لتحقيق صحوة دينية توراتية شاملة.
استرشادهم بالأحداث الفائتة، أدّى إلى استسلام الحكومة، أمام دروسهم وخطاباتهم الموغلة في أعماق التوراة وتعاليم التلمود، حيث قامت بالسماح لهم بأن يُضاعفوا من نشاطاتهم الداعية للعودة إلى الدين والتديّن، وسواء كانت بالترغيب أو الترهيب، وإلّا -كما ينشرون- فما الذي يمكن أن يتوقعه اليهود من المسلمين الذين يتواجدون من حولهم، سيما وهم يعتبرونهم أعداءهم الحقيقيين دينيًا وقوميًّا، وكان عزز نشاطاتهم في هذا الصدد، رئيس الوزراء الإسرائيلي "بنيامين نتانياهو" من خلال تأكيده بأن "الإرهاب" الموجّه ضد "إسرائيل"، يُرتكب بدوافع إسلاميّة متطرّفة هدفها الفتك بـ"إسرائيل" والقضاء عليها.
الأمر الأهم، هو أنّ هذه الدعوات لاقت رواجًا متسارعًا داخل المجتمع الإسرائيلي، حيث لوحظت مؤشرات تديّن واضحة، بدأت بقيام اليهود بالاقتراب من الدين أكثر فأكثر، وذلك من خلال أداء صلوات وطقوس دينية منتظمة، ومُتابعة تعاليم التوراة، حيث انتشرت حملات شبابية تتخلّى عن المظاهر الكافرة، كخلع السلاسل وإزالة الأقراط والوشوم، كما قامت الفتيات بتمزيق ملابسهنّ غير المحتشمة، وإعطاء وعود بعدم رقصهنّ في الاحتفالات المختلطة، والمداومة على دعاء الرب، بأن يُنقذ "إسرائيل" من موجة الأزمات والعمليات الفلسطينية "الإرهابية".
ومتابعةً لترسيخ تلك الصحوة، فقد تم منح المدارس الدينية والحكومية فرصة زيادة عدد ساعات تدريس التوراة وتعاليم التلمود المقدسة داخلها، لتصل إلى عشر ساعات أسبوعيًا تقريبًا، إضافةً إلى تعيين حاخامات ورابيين جُدد، لإعطاء دروس وعِبر لعامة الطلاب، ومساعدتهم في التفقّه حول مضامين دينية، ولإفتائهم حول المسائل التي يحتاجون إلى أجوبة لها، وصولًا إلى طرح مساقات دينيّة، تعزز وعيهم، حول ضرورة بناء الهيكل "المزعوم" على أنقاض المسجد الأقصى.