ورد تل سيانو الأثري في نصوص أوغاريت (رأس الشمرة) ذكرت أن مملكتين صغيرتين في جنوب مملكتها كانت تحت سيطرتها ففصلهما الحثيون عنها وألحقوها بمملكة كركميش (جرابلس) المملكة الأولى تسمى «سيانو»
والثانية «أشناتو» وقد أجمع العلماء على أن عاصمة مملكة «سيانو» هي في تل سيانو نفسه. وذلك اعتماداً على اسمها الكنعاني الذي لم يتغير منذ ثلاثة آلاف وثلاثمائة عام (ورد أيضاً يشكل سيانا أوتيانا كما ورد في نصوص الآشوريين بشكل «شياني»).
اما «اشناتو» فقد ارتأى عالم الآثار رينيه دوسو أنها جاثية في تل عرب الملك. بينما رجح إميل فورير أنها في تل حصين أما بول ريس فقد مال إلى أنها في تل الدروك وتلك التلال جميعها تقع في سهل جبلة الواسع..
وتل سيانو الأثري يعتبر من حيث الحجم والمساحة واحداً من أكبر خمسة تلال أثرية على الساحل السوري ويبعد 8كم إلى الشرق من مدينة جبلة التي تقع بدورها على بعد 30 كم إلى الجنوب من مدينة اللاذقية. وهذا الموقع الأثري الهام الذي ظل صامتاً حتى أواخر الثمانينيات من القرن العشرين رغم شهرة المدينة الجاثية فيه ثم بدأ عطاؤه مصادفة في كشف عفوي أو شبه عفوي في عام 1990 حيث قامت المديرية العامة للآثار والمتاحف بتشكيل بعثة أثرية وطنية سورية قامت بإستنطاق أسراره بعدة مواسم تنقيبية ضمت باحثين وعلماء آثار سوريين.بإدارة عالم الاثار السوري الراحل الدكتور عدنان البني..ومجموعة من علماء الاثار والآثاريين والمختصين نذكر منهم الدكتور ميشيل مقدسي والدتور بسام جاموس والدتور جمال حيدر الدكتور أحمد سرية ونجوى خاسكية ..وكاتب هذه السطور اضافة الى مجموعة من الطلاب والدارسين..
اما النصوص التي تحدثت عن سيانو في أوغاريت وغيرها. وكانت أوغاريت دوماً على صلات حميمية مع مصر وفي عهد الفرعون المصري أمنحوتب الثاني (1450 – 1425 ق. م) كانت أوغاريت تسمى «قلعة الملك» وقد قدَّر عالم الآثار «كلود شيفر» منقب أوغاريت أن قوات مصرية كانت معسكرة هناك وإن سبب وجودها وقف الضغط الحثي وتحركات الحزب الموالي للحثيين داخل أوغاريت.
بقي الوضع السياسي في القرن الرابع عشر ق. م على هذا الشكل ومملكة سيانو مقرّة بتبعيتها لأوغاريت وملكها «تيني تيشوب» يكتب رسائل تظهر التبجيل لملك أوغاريت ويشكو له اعتداءات أهل بيروتي (رأس ابن هاني على بعد 10 كم شمال مدينة اللاذقية في عصر رسائل تل العمارنة والإصلاح الديني في مصر ضعف النفوذ المصري في بلاد الشام وبخاصة في سورية الشمالية والساحل السوري. وكانت الممالك الساحلية تطلب النجدة من مصر لكن دون جدوى وكانت الرسائل تبقى مكومة في محفوظات الفرعون امنحوتب الثالث وبخاصة الفرعون امنحوتب الرابع (أخناتون) في العاصمة الجديدة (أخناتون) «تل العمارنة» وكان في هذه الرسائل ذكر لمدينة أسمها «تيانا» يُعتقد أنها «سيانو»» وفي زمن «نقماد» ملك أوغاريت ذائع الصيت الذي حكم من (1370 – 1330 ق. م) عقدت معاهدة بينه وبين «عزيرو» ملك أمورو (التي كانت عاصمتها صمور /سيميرا/ في تل الكزل بسهل عكار قرب الحدود اللبنانية) ورغم التحكيمات والمراسيم الحثية ظلت مسألة الحدود بين أوغاريت وسيانو مثار مشكلات عديدة في القرنين الرابع عشر والثالث ق. م ونقرأ صدى ذلك في مراسلات بين ملوك الحثيين ومملكة (جرابلس) من جهة وبين أوغاريت وسيانو وأشناتو من جهة ثانية. وبعد اجتياح شعوب البحر لمدن الساحل السوري في عام 1180 ق. م وانهيار المملكة الحثية ومملكة أوغاريت وأكثر ممالك الساحل الكنعاني من الأمانوس حتى رفح.. بدأت بعد ذلك فترة معتمة وغامضة في تاريخ الساحل السوري وفي نهاية القرن الثاني عشر ق.م أخذ الآشوريون يحاولون شق منفذ لهم إلى البحر وبلغت حملاتهم أوجها في القرنين التاسع والثامن ق. م. كانت سيانو مع حلف يضم الملوك الكنعانيين والآراميين والسوريين عموماً ومعهم شيخ البادية جندب العربي ضد الآشوريين وقد تزعم هذا الحلف ملك دمشق الآرامي «برحدد» ونجح في هزيمة الملك الآشوري «شلما نصر الثالث» في معركة قرقر الأولى التي جرت عام 853 ق. م. في سهل الغاب بسورية (موقع تل اكركور حالياً..) وقد ذكر «شلما نصر» في حولياته أن «أدنو بعلي» ملك سيانو قدم للمعركة /30/ عربة وألف محارب وأن مدينة «أوشناتو» قدمت /200/ محارب.
ومن القرى والبلدات التي كانت تابعة لمملكة» سيانو» لاتزال تحتفظ بأسمائها محرفة أحياناً بعض الشيء.. وهي: قمصو- صايا- مرداش- بعمرائيل..الخ. ذلك هو موجز المعروف عن سيانو فما هو الجديد!..لقد شملت أعمال التنقيب الاثري التي قامت بها البعثة الاثرية السورية وتمت في عدة قطاعات على سطح التل الاثري.. فالاضافة إلى معصرة زيت الزيتون التي تعود إلى فترة الاحتلال الروماني البيزنطي أرضها مفروشة بحصيرة فسيفسائية لمنع شح الزيت بالإضافة إلى واجهة مدفن من الزمن الروماني وأثاث قبر كنعاني من حوالي القرن السابع ق.م..
ويمكن أن نجمل السويات الأثرية التي تم التعرف اليها وأهم ما وجد فيها بما يلي:
1- على السطح فخار من العصر المملوكي والعثماني خلفته أعمال زراعية أزالت المعالم السكنية.
2- بقايا سكن من الفترة الرومانية والبيزنطية.
3- باحة واسعة جداً مبلطة بالحجارة النهرية المستديرة كانت تقوم عليها منشأة دينية هامة من نهايات العصر الفارسي وبدايات الزمن الهيلينستي وفيها فخار يوناني مستورد جميل..
4- أسوار متينة بعرض 200-250سم من عصر الحديد الثاني حوالي 800ق.م وتمتد تلك الاسوار على قمة الجرف الشمالي من التل ثم تدور نحو الشرق وما زال تأريخ هذه الاسوار موضع جدل.
5- سوية من عصر البرونز الوسيط الثاني حوالي 1800ق.م(عصر ماري/تل الحريري)أهم ما اكتشف في هذه السوية الأثرية منحوتة مصرية للربة»حتحور» بصفتها راعية مدينة»ايدنيت» المعروفة الآن باسم» دندرة» في مصر العليا.. ووجود هذه المنحوتة المصرية دلالة على وجود معبد للربة المذكورة في تل سيانو إضافة إلى رقيّم محررة باللغة البابلية القديمة تعود إلى القرن الثامن عشر ق.م فيه جرد لبضائع واردة من قبرص(ألاشيا) الامر الذي يدل على اتساع نشاط سيانو التجاري بين الرافدين والبحر الأبيض المتوسط ومصر.. وهذا النص اعتبر أقدم نص محرر بالبالية القديمة يعثر عليه حتى الآن في الساحل السوري بناءً على تقرير البعثة الأثرية السورية التي كانت تعمل في تل»سيانو»..
سوية عصر البرونز القديم الرابع حوالي /2100/ ق. م. فيها مساكن وجرار فخارية النوع الممشط الذي كان يُصدَّر به الزيت إلى مصر وحوض البحر المتوسط.
إن الفخار الممشط يفوق ما نعرفه من ذلك العصر في السوية المماثلة في موقع أوغاريت وفي كل الساحل السوري. الأمر الذي يدل بوضوح على أن سيانو كانت تستخرج كميات ضخمة من الزيت ومشتقات العنب والمجففات في تلك الفترة المبكرة وتصدرها إلى مصر في تلك الجرار الفخارية.
وأخيراً يمكن أن نستخلص من ذلك كله بأن هذه المكتشفات ذات أهمية أثرية نادرة تجعل من تل سيانو واحداً من أكثر التلال الأثرية أهمية على طول ساحلنا السوري.. وإن عطاءات هذا التل الأثري سوف يزودنا بمزيد من أسرار مملكة سيانو والتطور الذي طرأ على عاصمتها خلال أكثر من ثلاثين قرناً وهي لن تخيب آمال من استنطق أسراره.
..عاشق أوغاريت غسان القيّم..